الكون والفساد؟! على أنه إذا ثبت كونه تعالى قادرا مختارا ولا فاعل في الوجود إلا هو فلم لا يجوز أن يعيد الأبدان بحيث لا تتحلل ، أو إن تحللت فلم لا يجوز أن يخلق بدل ما تحلل دائما أبدا؟ وسبحان القادر الحكيم الذي لا يعجزه شيء (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً) قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره : نزلت في اليهود لما ضرب الله تعالى الأمثال في كتابه بالعنكبوت ، والذباب وغير ذلك مما يستحقر قالوا : إن الله تعالى أعز وأعظم من أن يضرب الأمثال بمثل هذه المحقرات فرد الله تعالى عليهم بهذه الآية. ووجه ربطها بما تقدم على هذا ـ وكان المناسب عليه أن توضع في سورة العنكبوت مثلا ـ أنها جواب عن شبهة تورد على إقامة الحجة على حقية القرآن بأنه معجز فهي من الريب الذي هو في غاية الاضمحلال فكان ذكرها هنا أنسب ، وقال مجاهد وغيره : نزلت في المنافقين ، قالوا ـ لما ضرب الله سبحانه المثل بالمستوقد ، والصيب ـ الله تعالى أعلى وأعظم من أن يضرب الأمثال بمثل هذه الأشياء التي لا بال لها فرد الله تعالى عليهم ووجه الربط عليه ظاهر فإنها للذب عن التمثيلات السابقة على أحسن وجه وأبلغه ، وقيل : إنها متصلة بقوله تعالى : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) أي (لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً) لهذه الأنداد ، وقيل : هذا مثل ضرب للدنيا وأهلها فإن البعوضة تحيا ما جاعت وإذا شبعت ماتت ، كذلك أهل الدنيا إذا امتلئوا منها هلكوا ، أو مثل لأعمال العباد وأنه لا يمتنع أن يذكر منها ما قل أو كثر ليجازى عليه ثوابا وعقابا ، وعلى هذين القولين لا ارتباط للآية بما قبلها بل هي ابتداء كلام ، وهذا وإن جاز لا أقول به إذ المناسب بكل آية أن ترتبط بما قبلها وفي الآية إشارة إلى حسن التمثيل كيف والله سبحانه مع عظمته وبالغ حكمته لم يتركه ولم يستح منه. وما انفكت الأمثال في الناس سائرة. والحياء ـ كما قال الراغب ـ انقباض النفس عن القبائح ، وهو مركب من جبن وعفة ، وليس هو الخجل بل ذاك حيرة النفس لفرط الحياة فهما متغايران وإن تلازما ، وقال بعضهم : الخجل لا يكون إلا بعد صدور أمر زائد لا يريده القائم به بخلاف الحياء فإنه قد يكون مما لم يقع فيترك لأجله ، وما في القاموس خجل استحى تسامح ، وهو مشتق من الحياة لأنه يؤثر في القوة المختصة بالحيوان وهي قوة الحس والحركة ، والآية تشعر بصحة نسبة الحياء إليه تعالى لأنه في العرف لا يسلب الحياء إلا عمن هو شأنه ، على أن النفي داخل على كلام فيه قيد فيرجع إلى القيد فيفيد ثبوت أصل الفعل أو إمكانه لا أقل ، وأما في الأحاديث فقد صرح بالنسبة ـ وللناس في ذلك مذهبان ـ فبعض يقول بالتأويل إذ الانقباض النفساني مما لا يحوم حول حظائر قدسه سبحانه ، فالمراد بالحياء عنده الترك اللازم للانقباض ، وجوّز جعل ما هنا بخصوصه من باب المقابلة لما وقع في كلام الكفرة بناء على ما روي أنهم قالوا : ما يستحي رب محمد أن يضرب الأمثال بالذباب ، والعنكبوت ، وبعض ـ وأنا والحمد لله منهم لا يقول بالتأويل بل يمر هذا وأمثاله ـ مما جاء عنه سبحانه في الآيات والأحاديث ـ على ما جاءت ويكل علمها بعد التنزيه عما في الشاهد إلى عالم الغيب والشهادة ، وقرأ الجمهور يستحيي بياءين والماضي استحيا ، وجاء استفعل هنا للإغناء عن الثلاثي المجرد كاستأثر ، وقرأ ابن كثير في رواية ـ وقليلون ـ بياء واحدة وهي لغة بني تميم ، وهل المحذوف اللام فالوزن يستفع. أو العين فالوزن يستفل؟ قولان : أشهرهما الثاني ، وهذا الفعل مما يكون متعديا بنفسه وبالحرف فيقال : استحييته واستحيت منه ، والآية تحتملهما. والضرب إيقاع شيء على شيء ، وضرب المثل من ضرب الدراهم وهو ذكر شيء يظهر أثره في غيره ، فمعنى يضرب هنا يذكر ، وقيل: يبين. وقيل : يضع من (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) [آل عمران : ١١٢] و (ما) اسم بمعنى شيء يوصف به النكرة لمزيد الإبهام ويسد طرق التقييد ، وقد يفيد التحقير أيضا ـ كاعطه شيئا (ما) ـ والتعظيم ـ كالأمر (ما) جدع قصير أنفه ـ والتنويع ـ كاضربه ضربا (ما) ـ وقد تجعل سيف خطيب ، والقرآن أجل من أن يلغى فيه شيء ، وبعوضة إما صفة ـ لما ـ أو بدل منها أو عطف بيان إن قيل بجوازه في النكرات أو بدل من (مَثَلاً) أو عطف بيان له إن قيل (ما) زائدة ، أو مفعول و (مَثَلاً) حال وهي المقصودة ، أو منصوب على نزع الخافض أي