(ما) من بعوضة (فَما فَوْقَها) كما نقل عن الفراء. والفاء بمعنى إلى ، أو مفعول ثان ؛ أو أول بناء على تضمن الضرب معنى الجعل ، ولا يرد على إرادة العموم أن مثال المعنى على المشهور أن الله لا يترك أي مثل كان فيقتضي أن جميع الأمثال مضروبة في كلامه فأين هي لأن المنفي ليس مطلق الترك بل الترك لأجل الاستحياء؟ فالمعنى لا يترك (مَثَلاً ما) استحياء وإن تركه لأمر آخر أراده ، وقرأ ابن أبي عبلة ، وجماعة : بعوضة بالرفع والشائع على أنه خبر ، واختلفوا فيما يكون عنه خبرا ؛ فقيل مبتدأ محذوف ـ أي هي ، أو هو ـ بعوضة ، والجملة صلة (ما) على جعلها موصولة ، وهو تخريج كوفي لحذف صدر الصلة من غير طول ، وقيل : (ما) بناء على أنها استفهامية مبتدأ ، واختار فى البحر أن تكون (ما) صلة أو صفة وهي (بَعُوضَةً) جملة كالتفسير لما انطوى عليه الكلام ، وقيل : (بَعُوضَةً) مبتدأ ، و (ما) نافية والخبر محذوف ـ أي متروكة ـ لدلالة (لا يَسْتَحْيِي) عليه.
«والبعوضة» واحد البعوض ، وهو طائر معروف ، وفيه من دقيق الصنع وعجيب الإبداع ما يعجز الإنسان أن يحيط بوصفه ولا ينكر ذلك إلا نمرود. وهو في الأصل صفة على فعول كالقطوع ، ولذا سمي في لغة هذيل ـ خموش ـ فغلبت ، واشتقاقه من البعض بمعنى القطع (فَما فَوْقَها) الفاء عاطفة ترتيبية ، و (ما) عطف على (بَعُوضَةً) أو «ما» إن جعل اسما والتفصيل وما فيه غير خفي. والمراد بالفوقية إما الزيادة في حجم الممثل به فهو ترقّ من الصغير للكبير ، وبه قال ابن عباس ، أو الزيادة في المعنى الذي وقع التمثيل فيه وهو الصغر والحقارة فهو تنزل من الحقير للأحقر ، وهذان الوجهان على القراءة المشهورة وأما على قراءة الرفع فقد قالوا : إن جعلت «ما» موصولة ففيه الوجهان ، وإن جعلت استفهامية تعين الأول لأن العظم مبتدأ من البعوضة إذ ذاك ، وقيل : أراد ـ ما فوقها ـ وما دونها فاكتفى بأحد الشيئين عن الآخر على حد (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] فافهم.
(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) تفصيل لما أشار إليه قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي) إلخ من أنه وقع فيه ارتياب بين التحقيق والارتياب ، أو لما يترتب على ضرب المثل من الحكم إثر تحقيق حقية صدوره عنه سبحانه ، والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما يشير إليه ما قبلها. وكأنه قيل كما قيل فيضربه (فَأَمَّا الَّذِينَ) إلخ ، وتقديم بيان حال المؤمنين لشرفه ، وأما على ما عليه المحققون حرف متضمنة لمعنى الشرط ولذا لزمتها الفاء غالبا ، وتفيد مع هذا تأكيد ما دخلت عليه من الحكم ؛ وتكون لتفصيل مجمل تقدمها صريحا ، أو دلالة ، أو لم يتقدم لكنه حاضر في الذهن ولو تقديرا ، ولما كان هذا خلاف الظاهر في كثير من موارد استعمالها جعله الرضى والمرتضى ـ من المحققين ـ أغلبيا ، وفسر سيبويه ـ أما زيد فذاهب ـ بمهما يكن من شيء فزيد ذاهب وليس المراد به أنها مرادفة لذلك الاسم ، والفعل إذ لا نظير له ، بل المراد أنها لما أفادت التأكيد وتحتم الوقوع في المستقبل كان مآل المعنى ذلك. ولما أشعرت بالشرطية قدر شرط يدل على تحتم الوقوع وهو وجود شيء ما في الدنيا إذ لا تخلو عنه فما علق عليه محقق ، وحيث كان المعنى ما ذكر سيبويه ، ومهما مبتدأ والاسمية لازمة له ، ويكن فعل شرط والفاء لازمة تليه غالبا ، وقامت ـ أما ذلك المقام ـ لزمها الفاء ولصوق الاسم إقامة للازم مقام الملزوم ، وإبقاء لأثره في الجملة وكان الأصل دخول الفاء على الجملة فيما ذكر لأنها الجزاء لكن كرهوا إيلاءها حرف الشرط فأدخلوا الخبر وعوضوا المبتدأ عن الشرط لفظا ، وقد يقدم على الفاء ـ كما في الرضى ـ من أجزاء الجزاء المفعول به والظرف والحال إلى غير ذلك مما عدوه على ما فيه ، وفي تصدير الجملتين بها من الإحماد والذم ما لا يخفى. والمراد بالموصول فريق المؤمنين المعهودين كما أن المراد بالموصول الآتي فريق الكفرة الطاغين لا من يؤمن بضرب المثل ومن يكفر به لاختلال المعنى ، والضمير في (أَنَّهُ) للمثل ، وهو أقرب ، أو لضربه المفهوم من أن يضرب ، وقيل : لترك الاستحياء المنقدح مما