مر ، وقيل : للقرآن و (الْحَقُ) خلاف الباطل ، وهو في الأصل مصدر حق يحق من بابي ضرب وقتل إذا وجب أو ثبت ، وقال الراغب : أصله المطابقة والموافقة ، ويكون بمعنى الموجد بحسب الحكمة والموجد على وفقها والاعتقاد المطابق للواقع ، وقيل : إنه الحكم المطابق ، ويطلق على الأقوال والعقائد والأديان والمذاهب باعتبار اشتماله على ذلك ، ولم يفرق في المشهور بينه وبين الصدق إلا أنه شاع في العقد المطابق ، والصدق في القول كذلك ، وقد يفرق بينهما بأن المطابقة تعتبر في الحق من جانب الواقع وفي الصدق من جانب الحكم ، وتعريفه هنا إما للقصر الادعائي كما يقال ـ هذا هو الحق ـ أو لدعوى الاتحاد ويكون المحكوم عليه مسلم الاتصاف ، و (مِنْ رَبِّهِمْ) إما خبر بعد خبر أو حال من ضمير الحق ، و (مِنْ) لابتداء الغاية المجازية ، والتعرض لعنوان الربوبية للإشارة إلى أنهم يعترفون بحقية القرآن وبما أنعم الله تعالى به عليهم من النعم التي من أجلها نزول هذا الكتاب وهو المناسب لقوله سبحانه (نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) وأما الكفرة المنكرون لجلاله المتخذون غيره من الأرباب فالله عز اسمه هو المناسب لحالهم (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) [آل عمران : ٢٨ ، ٣٠] وقيل : في ذلك ـ مع الإضافة إلى الضمير ـ تشريف وإيذان بأن ضرب المثل تربية لهم وإرشاد إلى ما يوصلهم إلى كمالهم اللائق بهم ، والجملة سادة مسد مفعولي ـ يعلمون ـ عند الجمهور ، ومسد الأول والثاني محذوف عند الأخفش أي (فَيَعْلَمُونَ) حقيته ثابتة.
(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) لم يقل سبحانه ـ وأما الذين كفروا فلا يعلمون ـ ليقابل سابقه لما في هذا من المبالغة في ذمهم والتنبيه بأحسن وجه على كمال جهلهم لأن الاستفهام إما لعدم العلم أو للإنكار وكل منهما يدل على الجهل دلالة واضحة :
ومن قال للمسك أين الشذا |
|
يكذبه ريحه الطيب |
قيل : ولم يقل سبحانه هناك ـ وأما الذين آمنوا فيقولون ـ إلخ إشارة إلى أن المؤمنين اكتفوا بالخضوع والطاعة من غير حاجة إلى التكلم والكافرون لخبثهم وعنادهم لا يطيقون الأسرار لأنه كاخفاء الجمر في الحلفاء ، وقيل : إن ـ يقولون ـ لا يدل صريحا على العلم وهو المقصود والكافرون منهم الجاهل والمعاند (فَيَقُولُونَ) إلخ أشمل وأجمع ، و (ما ذا) لها ستة أوجه في استعمالهم. الأول أن تكون «ما» استفهامية في موضع رفع بالابتداء ، و ـ ذا ـ بمعنى الذي خبره ، وأخبر عن المعرفة بالنكرة هنا بناء على مذهب سيبويه في جوازه في أسماء الاستفهام. وغيره يجعل النكرة خبرا عن الموصول. الثاني أن تكون (ما ذا) كلها استفهاما مفعولا ـ لأراد ـ وهذان الوجهان فصيحان اعتبرهما سائر المفسرين والمعربين في الآية ، والاستفهام يحتمل الاستغراب والاستبعاد والاستهزاء (ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) [النور : ٤٠] ، الثالث أن يجعل ـ ما ـ استفهامية ، و ـ ذا ـ صلة لا إشارة ولا موصولة ، الرابع أن يجعلا معا موصولا كقوله. دعي (ما ذا) علمت سأتقيه. الخامس أن يجعلا نكرة موصوفة وقد جوز في المثال ، السادس أن تكون ـ ما ـ استفهامية ، و ـ ذا ـ اسم إشارة خبر له.
«والإرادة» كما قاله الراغب : منقولة من راد يرود إذا سعى في طلب شيء وهي في الأصل قوة مركبة من شهوة وخاطر وأمل ، وجعل اسما لنزوغ النفس إلى الشيء مع الحكم فيه بأنه ينبغي أن يفعل أو لا يفعل ، ثم يستعمل مرة في المبدأ وهو نزوع النفس إلى الشيء وتارة في المنتهى وهو الحكم فيه بأنه ينبغي إلخ ، وإرادة المعنى من اللفظ مجرد القصد وهو استعمال آخر ولسنا بصدده ، وبين الإرادة والشهوة عموم من وجه لأنها قد تتعلق بنفسها بخلاف الشهوة فإنها إنما تتعلق باللذات ، والإنسان قد يريد الدواء البشع ولا يشتهيه ويشتهي اللذيذ ولا يريده إذا علم فيه هلاكه وقد يشتهي ويريد. وللمتكلمين ـ أهل الحق وغيرهم ـ في تفسيرها مذاهب ، فالكلبي والنجار وغيرهما على أن إرادته