سبحانه لأفعاله أنه يفعلها عالما بها وبما فيها من المصلحة ، ولأفعال غيره أنه أمر بها وطلبها ، فالمعاصي إذا ليست بإرادته جل شأنه ، ونحو ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وارد عليهم ؛ والجاحظ وبعض المعتزلة والحكماء على أن إرادته تعالى شأنه علمه بجميع الموجودات من الأزل إلى الأبد وبأنه كيف ينبغي أن يكون نظام الوجود حتى يكون على الوجه الأكمل ، ويكفيه صدوره عنه حتى يكون الموجود على وفق المعلوم على أحسن النظام من غير قصد وطلب شوقي ، ويسمون هذا العلم عناية ؛ وذهب الكرامية وأبو علي وأبو هاشم إلى أنها صفة زائدة على العلم إلا أنها حادثة قائمة بذاته عز شأنه عند الكرامية ، وموجودة لا في محل عند الأبوين ، والمذاهب الحق أنها ذاتية قديمة وجودية زائدة على العلم ومغايرة له وللقدرة ، مخصصة لأحد طرفي المقدور بالوقوع ، وكونها نفس الترجيح الذي هو من صفات الأفعال ـ كما قال البيضاوي عفا الله تعالى عنه ـ لم يذهب إليه أحد. وفي كلمة ـ هذا ـ استحقار للمشار إليه مثلها في (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) [الفرقان : ٤١] وقد تكون للتعظيم بحسب اقتضاء المقام ، و (مَثَلاً) نصب على التمييز عن نسبة الاستغراب ونحوه إلى المشار إليه. وقد ذكر الرضى ـ والعهدة عليه ـ أن الضمير واسم الإشارة إذا كانا مبهمين يجيء التمييز عنهما والعامل هما لتماميهما بنفسهما حيث يمتنع إضافتهما ، وإذا كانا معلومين فالتمييز عن النسبة ، ويحتمل أن يكون حالا من اسم الله تعالى أو من هذا أي ممثلا أو ممثلا به أو بضربه.
(يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) جملتان جاريتان مجرى البيان ، والتفسير للجملتين المصدرتين ـ بأما ـ إذ يشتملان على أن كلا الفريقين موصوف بالكثرة وعلى أن العلم بكونه حقا من الهدى الذي يزداد به المؤمنون نورا إلى نورهم ، والجهل بموقعه من الضلالة التي يزداد بها الجهال خبطا في ظلمتهم ، وهاتان يزيدان ما تضمنتاه وضوحا أو أنهما جواب لدفع ما يزعمونه من عدم الفائدة في ضرب الأمثال بالمحقرات ببيان أنه مشتمل على حكمة جليلة وغاية جميلة هي كونه وسيلة إلى هداية المستعدين للهداية وإضلال المنهمكين في الغواية ، وصرح بعضهم بأنهما جواب ـ لما ذا ـ ووضع الفعلان موضع المصدر للإشعار بالاستمرار التجددي والمضارع يستعمل له كثيرا ، ففي التعبير به هنا إشارة إلى أن الإضلال والهداية لا يزالان يتجددان ما تجدد الزمان ، قيل : ووضعهما موضع الفعل الواقع في الاستفهام مبالغة في الدلالة على تحققهما فإن إرادتهما دون وقوعهما بالفعل وتجافيا عن نظم الإضلال مع الهداية في سلك الإرادة لإيهامه تساويهما في التعلق وليس كذلك ، فإن المراد بالذات من ضرب المثل هو التذكير والاهتداء كما يشير إليه قوله تعالى : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الحشر : ٢١] وأما الإضلال فعارض مترتب على سوء الاختيار ، وقدم في النظم الإضلال على الهداية مع سبق الرحمة على الغضب ، وتقدمها بالرتبة والشرف لأن قولهم ناشئ من الضلال مع أن كون ما في القرآن سببا له أحوج للبيان لأن سببيته للهدى في غاية الظهور ، فالاهتمام ببيانه أولى ، ووصف كل من القبيلتين بالكثرة بالنظر إلى أنفسهم وإلا فالمهتدون قليلون بالنسبة إلى أهل الضلال وبعيد حمل كثرة المهتدين على الكثرة المعنوية بجعل كثرة الخصائص اللطيفة بمنزلة كثرة الذوات الشريفة كما قيل :
ولم أر أمثال الرجال تفاوتت |
|
لدى المجد حتى عد ألف بواحد |
لا سيما وقد ذكر معها الكثرة الحقيقية ، هذا وجوّز بعضهم أن يكون قوله تعالى : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً) إلخ في موضع الصفة ـ لمثل ـ فهو من كلام الكفار ، ولعله من باب المماشاة مع المؤمنين إذ هم ليسوا بمعترفين بأن هذا المثل ـ يضل الله به كثيرا ويهدي به كثيرا ـ وأغرب من هذا تجويز ابن عطية أن يكون (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً) من كلام الكفار وما بعده من كلام الله تعالى وهو إلباس في التركيب وعدول عن الظاهر من غير دليل ، وإسناد الإضلال إليه تعالى حقيقي وقد تقدم وجهه فلا التفات إلى ما في الكشاف لأنه نزغة اعتزالية ، والضمير في (بِهِ) للمثل أو لضربه في