الموضعين ، وقيل : في الأول للتكذيب ، وفي الثاني للتصديق ودل على ذلك قوة الكلام ، ولا يخفى ضعفه ، وقرأ زيد بن علي (يُضِلُ) هنا وفيما يأتي ، و (يَهْدِي) بالبناء للمفعول وابن أبي عبلة في ـ الثلاثة ـ بالبناء للفاعل ، ورفعا للفاسقين ـ خفضهم الله تعالى : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) تذييل أو اعتراض في آخر الكلام بناء على قول من جوزه ، وقيل : حال ، ومنع الساليكوتي عطفه على ما قبله قائلا لأنه لا يصح كونه جوابا وبيانا ، وأجازه بعضهم تكملة للجواب وزيادة تعيين لمن أريد إضلالهم ببيان صفاتهم القبيحة المستتبعة له وإشارة إلى أن ذلك ليس إضلالا ابتدائيا بل هو تثبيت على ما كانوا عليه من فنون الضلال وزيادة فيه ، و (الْفاسِقِينَ) جمع فاسق من الفسق ، وهو شرعا خروج العقلاء عن الطاعة فيشمل الكفر ودونه من الكبيرة والصغيرة. واختص في العرف والاستعمال بارتكاب الكبيرة فلا يطلق على ارتكاب الآخرين إلا نادرا بقرينة ، وهو من قولهم : فسق الرطب إذا خرج من قشره ، قال ابن الأعرابي : ولم يسمع الفسق وصفا للإنسان في كلام العرب ، ولعله أراد في كلام الجاهلية كما صرح به ابن الأنباري ، وإلا فقد قال رؤبة ، وهو شاعر إسلامي يستدل بكلامه:
يذهبن في نجد وغورا غائرا |
|
«فواسقا» عن قصدها جوائرا |
على أنه يمكن أن يقال : لم يخرج الفسق في البيت عن الوضع لأنه وضعا خروج الإجرام وبروز الأجسام من غير العقلاء ، وما فيه خروج الإبل وهي لا تعقل. والمراد بالفاسقين هنا الخارجون عن حدود الإيمان وتخصيص الإضلال بهم مرتبا على صفة الفسق وما أجري عليهم من القبائح للإيذان بأن ذلك هو الذي أعدهم للإضلال وأدى بهم إلى الضلال فإن كفرهم وعدولهم عن الحق وإصرارهم على الباطل صرفت وجوه أنظارهم عن التدبر والتأمل حتى رسخت جهالتهم وازدادت ضلالتهم فأنكروا وقالوا ما قالوا ، ونصب (الْفاسِقِينَ) على أنه مفعول يضل أو على الاستثناء والمفعول محذوف أي أحدا ، ولا تفريغ كما في قوله :
نجا سالم والنفس منه بشدة |
|
ولم ينج إلا جفن سيف ومئزرا |
ومنع ذلك أبو البقاء ولعله محجوج بالبيت (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) يحتمل النصب والرفع ، والأول إما على الاتباع أو القطع ـ أي أذم ـ والثاني إما على الثاني من احتمالي الأول أو على الابتداء ، والخبر جملة (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) وعلى هذا تكون الجملة كأنها كلام مستأنف لا تعلق لها إلا على بعد و ـ النقض ـ فسخ التركيب ، وأصله يكون في الحبل ونقيضه الإبرام وفي الحائط ونحوه ، ونقيضه البناء. وشاع استعمال النقض في إبطال العهد ـ كما قال الزمخشري ـ من حيث تسميتهم العهد بالحبل على سبيل الاستعارة لما فيه من ثبات الوصلة بين المتعاهدين ، وهذا من أسرار البلاغة ولطائفها أن يسكتوا عن ذكر الشيء المستعار ثم يرمزوا بذكر شيء من روادفه فينبهوا بتلك الرمزة على مكانه نحو قولك : عالم يغترف منه الناس ، وشجاع يفترس أقرانه.
والحاصل أن في الآية استعارة بالكناية ، والنقض استعارة تحقيقية تصريحية حيث شبه إبطال العهد بإبطال تأليف الجسم ، وأطلق اسم المشبه به على المشبه لكنها إنما جازت وحسنت بعد اعتبار تشبيه العهد بالحبل ، فبهذا الاعتبار صارت قرينة على استعارة الحبل للعهد ، ومن هنا يظهر أن الاستعارة المكنية قد توجد بدون التخييلية وأن قرينتها قد تكون تحقيقية ، وتحقيق البحث يطلب من محله ، والعهد الموثق ، وعهد إليه في كذا إذا أوصاه ووثقه عليه ، واستعهد منه إذا اشترط عليه ، واستوثق منه. والمراد بالعهد هاهنا إما العهد المأخوذ بالعقل وهو الحجة القائمة على عباده تعالى الدالة على وجوده ووحدته وصدق رسله صلى الله تعالى عليهم وسلم ، وفي نقضها لهم ما لا يخفى من الذم لأنهم نقضوا ما أبرمه الله تعالى من الأدلة التي كررها عليهم في الأنفس والآفاق وبعث الأنبياء عليهم الصلاة