الناطقة المفارقة لأبدانها الصافية الخيرة ، والخبيثة عندهم شياطين ، وقال عبدة الأوثان : إنها هذه الكواكب السعد منها ملائكة الرحمة ، والنحس ملائكة العذاب. والفلاسفة يقولون : إنها جواهر مجردة مخالفة للنفوس الناطقة في الحقيقة ، وصرح بعضهم بأنها العقول العشرة والنفوس الفلكية التي تحرك الأفلاك ، وهي عندنا منقسمة إلى قسمين. قسم شأنهم الاستغراق في معرفة الحق والتنزه عن الاشتغال بغيره يسبحون الليل والنهار لا يفترون ، وهم العليون والملائكة المقربون. وقسم يدبر الأمر من السماء إلى الأرض على ما سبق به القضاء وجرى به القلم (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [التحريم : ٦] وهم (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) [النازعات : ٥] فمنهم سماوية ومنهم أرضية ، ولا يعلم عددهم إلا الله. وفي الخبر «أطت السماء وحق لها أن تئط ، ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع» وهم مختلفون في الهيئات متفاوتون في العظم ، لا يراهم على ما هم عليه إلا أرباب النفوس القدسية. وقد يظهرون بأبدان يشترك في رؤيتها الخاص والعام وهم على ما هم عليه ، حتى قيل : إن جبريل عليهالسلام في وقت ظهوره في صورة دحية الكلبي بين يدي المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يفارق سدرة المنتهى ، ومثله يقع للكمل من الأولياء ، وهذا ما وراء طور العقل ـ وأنا به من المؤمنين ـ وقد ذكر أهل الله ـ قدس الله تعالى أسرارهم ـ أن أول مظهر للحق جل شأنه العما ، ولما انصبغ بالنور فتح فيه صور الملائكة المهيمين الذين هم فوق عالم الأجساد الطبيعية ولا عرش ولا مخلوق تقدمهم. فلما أوجدهم تجلى لهم باسمه الجميل فهاموا في جلال جماله ، فهم لا يفيقون ، فلما شاء أن يخلق عالم التدوين والتسطير عين واحدا من هؤلاء ـ وهو أول ملك ظهر عن ملائكة ذلك النور ـ سماه العقل والقلم ، وتجلى له في مجلى التعليم الوهبي بما يريد إيجاده من خلقه لا إلى غاية ، فقبل بذاته علم ما يكون ، وما للحق من الأسماء الإلهية الطالبة صدور هذا العالم الخلقي ، فاشتق من هذا العقل ما سماه اللوح ، وأمر القلم أن يتدلى إليه ويودع فيه ما يكون إلى يوم القيامة لا غير. فجعل لهذا العلم ثلاثمائة وستين سنا من كونه قلما ، ومن كونه عقلا ثلاثمائة وستين تجليا أو رقيقة كل سن أو رقيقة تفترق من ثلاثمائة وستين صنفا من العلوم الإجمالية فيفصلها في اللوح ، وأول علم حصل فيه علم الطبيعة فكانت دون النفس ، وهذا كله في عالم النور الخالص ، ثم أوجد سبحانه الظلمة المحضة التي هي في مقابلة هذا النور بمنزلة العدم المطلق المقابل للوجود المطلق فأفاض عليها النور إفاضة ذاتية بمساعدة الطبيعة ، فلأم شعثها ذلك النور فظهر العرش ، فاستوى عليه اسم الرحمن بالاسم الظاهر فهو أول ما ظهر من عالم الخلق ، وخلق من ذلك النور فظهر العرش ، فاستوى عليه اسم الرحمن بالاسم الظاهر فهو أول ما ظهر من عالم الخلق ، وخلق من ذلك النور الممتزج الملائكة الحافين ، وليس لهم شغل إلا كونهم ـ حافين من حول العرش يسبحون بحمده ـ ثم أوجد الكرسي في جوف هذا العرش ، وجعل فيه ملائكة من جنس طبيعته ، فكل فلك أصل لما خلق فيه من عماره ، كالعناصر فيما خلق فيها من عمارها ، وقسم في هذا الكرسي الكلمة إلى خبر وحكم ، وهما القدمان اللتان تدلتا له من العرش كما ورد في الخبر. ثم خلق في جوف الكرسي الأفلاك ، فلكا في جوف فلك ، وخلق في كل فلك عالما منه يعمرونه ، وزينها بالكواكب (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) [فصلت : ١٢] إلى أن خلق صور المولدات ، وتجلى لكل صنف منها بحسب ما هي عليه ، فتكون من ذلك أرواح الصور وأمرها بتدبيرها وجعلها غير منقسمة بل ذاتا واحدة ، وميز بعضها عن بعض فتميزت وكان تمييزها بحسب قبول الصور من ذلك التجلي ، وهذه الصور في الحقيقة كالمظاهر لتلك الأرواح ، ثم أحدث سبحانه الصور الجسدية الخيالية بتجلّ آخر ، وجعل لكل من الأرواح والصور غذاء يناسبه ، ولا يزال الحق سبحانه يخلق من أنفاس العالم ملائكة ما داموا متنفسين ، وسبحان من يقول للشيء كن فيكون.
إذا علمت ذلك فاعلم أنهم اختلفوا في الملائكة المقول لهم ، فقيل : كلهم لعموم اللفظ وعدم المخصص ،