بأخبار من الله تعالى ولم يقص علينا فيما حكي عنهم اكتفاء بدلالة الجواب عليه للإيجاز كما هو عادة القرآن ، ويؤيد ذلك ما روي في بعض الآثار أنه لما قال الله تعالى ذلك قالوا : وما يكون من ذلك الخليفة؟ قال : تكون له ذرية يفسدون في الأرض ويقتل بعضهم بعضا فعند ذلك قالوا : ربنا (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) وقيل : عرفوا ذلك من اللوح ويبعده عدم علم الجواب ، ويحتاج الجواب إلى تكلف ، وقيل : عرفوه استنباطا عما ركز في عقولهم من عدم عصمة غيرهم المفضي إلى العلم بصدور المعصية عمن عداهم المفضي إلى التنازع والتشاجر إذ من لا يرحم نفسه لا يرحم غيره ، وذلك يفضي إلى الفساد وسفك الدماء ، وقيل : قياسا لأحد الثقلين على الآخر بجامع اشتراكهما في عدم العصمة ولا يخفى ما في القولين ، ويحتمل أنه علموا ذلك من تسميته خليفة لأن الخلافة تقتضي الإصلاح وقهر المستخلف عليه وهو يستلزم أن يصدر منه فساد إما في ذاته بمقتضى الشهوة أو في غيره من السفك أو لأنها مجلى الجلال كما أنها مجلى الجمال ، ولكل آثار ، و ـ الإفساد والسفك ـ من آثار الجلال وسكتوا عن آثار الجمال إذ لا غرابة فيها وهم على كل تقدير ما قدروا الله تعالى حق قدره ولا يخل ذلك بهم ففوق كل ذي علم عليم (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) حال من ضمير الفاعل في (أَتَجْعَلُ) وفيها تقرير لجهة الإشكال ، والمعنى تستخلف من ذكر ونحن المعصومون وليس المقصود إلا الاستفسار عن المرجح لا العجب والتفاخر حتى يضر بعصمتهم كما زعمت الحشوية ، ولزوم الضمير ، وترك الواو في الجملة الاسمية إذا وقعت حالا مؤكدة غير مسلم كما في شرح التسهيل وصيغة المضارع للاستمرار ، وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي للاختصاص ، ومن الغريب جعل الجملة استفهامية حذف منها الأداة ، وكذا المعادل والتسبيح في الأصل مطلق التبعيد ، والمراد به تبعيد الله تعالى عن السوء وهو متعد بنفسه ويعدى باللام إشعارا بأن إيقاع الفعل لأجل الله تعالى وخالصا لوجهه سبحانه فالمفعول المقدر هاهنا يمكن أن يكون باللام على وفق قرينه ، وأن يكون بدونه كما هو أصله ، و «بحمدك» في موضع الحال والباء لاستدامة الصحبة والمعية ، وإضافة الحمد إما إلى الفاعل والمراد لازمه مجازا من التوفيق والهداية ، أو إلى المفعول أي متلبسين بحمدنا لك على ما وفقتنا لتسبيحك ، وفي ذلك نفي ما يوهمه الإسناد من العجب ، وقيل : المراد به تسبيح خاص وهو ـ سبحان ذي الملك والملكوت سبحان ذي العظمة والجبروت سبحان الحي الذي لا يموت ـ ويعرف هذا بتسبيح الملائكة ، أو ـ سبحان الله وبحمده ـ وفي حديث عن عبادة بن الصامت عن أبي ذر «أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم سئل أي الكلام أفضل؟ قال ما اصطفى الله تعالى لملائكته أو لعباده سبحان الله وبحمده» أي وبحمده نسبح ، و ـ التقديس ـ في المشهور كالتسبيح معنى ، واحتاجوا لدفع التكرار إلى أن أحدهما باعتبار الطاعات والآخر باعتبار الاعتقادات ، وقيل : التسبيح تنزيهه تعالى عما لا يليق به ، والتقديس تنزيهه في ذاته عما لا يراه لائقا بنفسه فهو أبلغ ويشهد له أنه حيث جمع بينهما أخر نحو ـ سبوح قدوس ـ ويحتمل أن يكون بمعنى التطهير ، والمراد نسبحك ونطهر أنفسنا من الأدناس أو أفعالنا من المعاصي فلا نفعل فعلهم من الإفساد والسفك أو نطهر قلوبنا عن الالتفات إلى غيرك ، ولام «لك» إما للعلة متعلق ـ بنقدس ـ والحمل على التنازع مما فيه تنازع أو معدية للفعل كما في ـ سجدت لله تعالى ـ أو للبيان كما في ـ سفها لك (١) ـ فمتعلقها حينئذ خبر مبتدأ محذوف أو زائدة والمفعول هو المجرور ، ثم الظاهر أن قائل هذه الجملة هو قائل الجملة الأولى ، وأغرب الشيخ صفي الدين الخزرجي في كتابه ـ فك الأزرار ـ فجعل القائل مختلفا ، وبين ذلك بأن الملائكة كانوا حين ورود الخطاب عليهم مجملين وكان إبليس مندرجا في
__________________
(١) قوله سفها لك كذا بخطه ا ه مصححه.