جملتهم فورد الجواب منهم مجملا ، فلما انفصل إبليس عن جملتهم بإبائه انفصل الجواب إلى نوعين ، فنوع الاعتراض منه ، ونوع التسبيح والتقديس ممن عداه ، فانقسم الجواب إلى قسمين كانقسام الجنس إلى جنسين ، وناسب كل جواب من ظهر عنه ، فالكلام شبيه بقوله تعالى : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا) [البقرة : ١٣٥] وهو تأويل لا تفسير (قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) أي أعلم من الحكم في ذلك ما أنتم بمعزل عنه ، وقيل : أراد بذلك علمه بمعصية إبليس وطاعة آدم ، وقيل : بأنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياء وصالحون ، وقيل : الأحسن أن يفسر هذا المبهم بما أخبر به تعالى عنه بقوله سبحانه : (إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ويفهم من كلام القوم قدس الله تعالى أسرارهم ، أن المراد من الآية بيان الحكمة في الخلافة على أدق وجه وأكمله ، فكأنه قال جل شأنه ـ أريد الظهور بأسمائي وصفاتي ولم يكمل ذلك بخلقكم ـ فإني أعلم ما لا تعلمونه لقصور استعدادكم ونقصان قابليتكم ، فلا تصلحون لظهور جميع الأسماء والصفات فيكم ، فلا تتم بكم معرفتي ولا يظهر عليكم كنزي ، فلا بد من إظهار من تم استعداده ، وكملت قابليته ليكون مجلى لي ومرآة لأسمائي وصفاتي ومظهرا للمتقابلات فيّ ، ومظهرا لما خفي عندي ، وبي يسمع وبي يبصر وبي وبي ، وبعد ذاك يرق الزجاج والخمر ، وإلى الله عز شأنه يرجع الأمر. و (أَعْلَمُ) فعل مضارع ، واحتمال أنه أفعل تفضيل مما لا ينبغي أن يخرج عليه كتاب الله سبحانه كما لا يخفى (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) عطف على «قال» ، وفيه تحقيق لمضمون ما تقدم ، وظاهر الابتداء بحكاية التعليم يدل على أن ما مر من المقاولة إنما جرت بعد خلقه عليهالسلام بمحضر منه بأن قيل أثر نفخ الروح فيه : إني جاعل إياه خليفة ، فقيل ما قيل ، وقيل : إنه معطوف على محذوف ، أي فخلق وعلم ، أو فخلقه وسواه ونفخ فيه الروح وعلم ، أو فجعل في الأرض خليفة وعلم ، وإبراز اسمه عليهالسلام للتنصيص عليه والتنويه بذكره. و (آدَمَ) صرح الجواليقي وكثيرون أنه عربي ووزنه أفعل من الأدمة ـ بضم فسكون ـ السمرة وياما أحيلاها في بعض ، وفسرها أناس بالبياض أو الأدمة ـ بفتحتين ـ الأسوة والقدوة أو من أديم الأرض ما ظهر منها. وقد أخرج أحمد والترمذي وصححه غير واحد ، أنه تعالى قبض قبضة من جميع الأرض سهلها وحزنها ، فخلق منها آدم ، فلذلك تأتي بنوه أخيافا (١) ، أو من الأدم أو الأدمة ، الموافقة والألفة ، وأصله أآدم ـ بهمزتين ـ فأبدلت الثانية ألفا لسكونها بعد فتحة ، ومنع صرفه للعلمية ووزن الفعل ، وقيل : أعجمي ووزنه فاعل ـ بفتح العين ـ ويكثر هذا في الأسماء ـ كشالخ وآزر ـ ويشهد له جمعه على أوادم ـ بالواو ـ لا ـ أآدم ـ بالهمزة ، وكذا تصغيره على ـ أويدم ـ لا ـ أؤيدم ـ واعتذر عنه الجوهري بأنه ليس للهمزة أصل في البناء معروف ، فجعل الغالب عليها ـ الواو ـ ولم يسلموه له ، وحينئذ لا يجري الاشتقاق فيه لأنه من تلك اللغة لا نعلمه ومن غيرها لا يصح ، والتوافق بين اللغات بعيد ، وإن ذكر فيه فذاك للإشارة إلى أنه بعد التعريب ملحق بكلامهم ، وهو اشتقاق تقديري اعتبروه لمعرفة الوزن والزائد فيه من غيره ، ومن أجراه فيه حقيقة كمن جمع بين الضب والنون ، ولعل هذا أقرب إلى الصواب. و (الْأَسْماءَ) جمع اسم وهو باعتبار الاشتقاق ما يكون علامة للشيء ودليلا يرفعه إلى الذهن من الألفاظ الموضوعة بجميع اللغات والصفات والأفعال ، واستعمل عرفا في الموضوع لمعنى مفردا كان أو مركبا مخبرا عنه أو خبرا أو رابطة بينهما ، وكلا المعنيين محتمل. والعلم بالألفاظ المفردة والمركبة تركيبا خبريا أو إنشائيا يستلزم العلم بالمعاني التصورية والتصديقية. وإرادة المعنى المصطلح مما لا يصلح لحدوثه بعد القرآن. وقال الإمام : المراد بالأسماء صفات الأشياء ونعوتها وخواصها ، لأنها علامات دالة على ماهياتها ، فجاز أن يعبر عنها بالأسماء ، وفيه كما قال الشهاب نظر إذ
__________________
(١) أي مختلفين ا ه منه.