بعدها على الهبوط المفهوم من الأمر (وإما)مركبة من إن الشرطية و «ما» الزائدة للتأكيد ، وكثر تأكيد الفعل بعدها بالنون ، ولم يجب كما يدل عليه قول سيبويه : إن شئت لم تقحم النون ، كما أنك إن شئت لم تجئ «بما» وقد ورد ذلك في قوله :
يا صاح إما تجدني غير ذي جدة |
|
فما التخلي عن الخلان من شيمي |
وقوله :
إما أقمت وإما كنت مرتحلا |
|
فالله يحفظ ما تبقي وما تذر |
وحمل ذلك من قال بالوجوب على الضرورة وهو مما لا ضرورة إليه ، والقول بأنه يلزم حينئذ مزية التابع الذي هو حرف الشرط على المتبوع وهو الفعل ـ يدفعه أن التابع ومؤكده تابع فلا مزية ، أو أن «ما» لتأكيد الفعل في أوله كما أن النون إذا كانت تأكيدا له في آخره وجيء بحرف الشك إذ لا قطع بالوقوع فإنّه تعالى لا يجب عليه شيء بل إن شاء هدى وإن شاء ترك ، وقيل : بالقطع واستعمال «إن» في مقامه لا يخلو عن نكتة كتنزيل العالم منزلة غيره بعدم جريه على موجب العلم ، ويحسنه سبق ما سيق وقوعه من آدم ، وقيل : إن زيادة «ما» والتوكيد بالثقيلة لا يتقاعد في إفادة القطع عن إذا ، نعم لا ينظر فيه إلى الزمان بل إلى أنه محقق الوقوع أبهم وقته ، وأنت تعلم أن ما اخترناه أسلم وأبعد عن التكلف مما ذكر ـ وإن جل قائله فتدبر ـ و «مني» متعلق بما قبله ، وفيه شبه الالتفات ـ كما في البحر ـ وأتى بالضمير الخاص هنا للرمز إلى أن اللائق ـ بمن ـ هدى التوحيد الصرف وعدم الالتفات إلى الكثرة ، ونكر ـ الهدى ـ لأن المقصود هو المطلق ولم يسبق فيه عهد فيعرف ، وفي المراد به هنا أقوال ، فقيل الكتب المنزلة ، وقيل : الرسل ، وقيل : محمد صلى الله تعالى عليه وسلم. ولعل المراد هديه الذي جاء به نوابه عليهم الصلاة والسلام ، والفاء في «فمن» للربط و «ما» بعد جملة شرطية وقعت جوابا للشرط الأول على حدّ ـ إن جئتني فإن قدرت أحسنت إليك ـ وقال السجاوندي : جوابه محذوف أي فاتبعوه ، واختار أبو حيان كون «من» هذه موصولة لما في المقابل من الموصول ، ودخلت الفاء في خبرها لتضمنها معنى الشرط ، ووضع المظهر موضع المضمر في هداي إشارة للعلية لأن الهدى بالنظر إلى ذاته واجب الاتباع ، وبالنظر إلى أنه أضيف إليه تعالى إضافة تشريف أحرى وأحق أن يتبع ، وقيل : لم يأت به ضميرا لأنه أعم من الأول لشموله لما يحصل بالاستدلال والعقل ، ولم يقل الهدى لئلا تتبادر العينية أيضا لأن النكرة في الغالب إذا أعيدت معرفة كانت عين الأول مع ما في الإضافة إلى نفسه تعالى من التعظيم ما لا يكون لو أتى به معرفا باللام ، والخوف الفزع في المستقبل ، والحزن ضد السرور مأخوذ من الحزن ـ وهو ما غلظ من الأرض ـ فكأنه ما غلظ من الهمّ ، ولا يكون إلا في الأمر الماضي على المشهور ، ويؤول حينئذ نحو (إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ) [يوسف : ١٣] بعلم ذلك الواقع ، وقيل : إنه والخوف كلاهما في المستقبل لكن الخوف استشعارهم لفقد مطلوب ، والحزن استشعار غم لفوت محبوب ، وجعل هنا نفي الخوف كناية عن نفي العقاب ، ونفي الحزن كناية عن نفي الثواب وهي أبلغ من الصريح وآكد لأنها كدعوى الشيء ببينة ، والمعنى ـ لا خوف عليهم ـ فضلا عن أن يحل بهم مكروه ، ولا هم يفوت عنهم محبوب فيحزنوا عليه ، فالمنفي عن الأولياء خوف حلول المكروه والحزن في الآخرة ، وفيه إشارة إلى أنه يدخلهم الجنة التي هي دار السرور والأمن لا خوف فيها ولا حزن ، وحينئذ يظهر التقابل بين الصنفين في الآيتين ، وقال بعض الكبراء : خوف المكروه منفي عنهم مطلقا. وأما خوف الجلال ففي غاية الكمال والمخلصون على خطر عظيم ، وقيل : المعنى ـ لا خوف عليهم ـ من الضلالة في الدنيا ، ولا حزن من الشقاوة في العقبى ، وقدم انتفاء الخوف لأن انتفاء الخوف فيما هو آت أكثر من انتفاء الحزن على ما فات. ولهذا صدر بالنكرة التي هي أدخل في النفي ، وقدم