أسانيدها صحة وضعفا في بيان الوفاء بالعهدين ، فبالنظر إلى المراتب المتوسطة ، وهي لعمري كثيرة ـ ولك أن تقول : «أول» المراتب منا توحيد الأفعال ، «وأوسطها» توحيد الصفات.
«وآخرها» توحيد الذات ، ومنه تعالى ما يفيضه على السالك في كل مرتبة مما تقتضيه تلك المرتبة من المعارف والأخلاق ، وقرأ الزهري «أوّف» بالتشديد ، فإن كان موافقا للمجرد فذاك ؛ وإن أريد به التكثير ـ والقلب إليه يميل ـ فهو إشارة إلى عظيم كرمه وإحسانه ، ومزيد امتنانه ، حيث أخبر وهو الصادق ، أنه يعطي الكثير في مقابلة القليل ، وهو صرح بذلك في قوله سبحانه : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) [الإنعام: ١٦٠] وانجزام الفعل لوقوعه في جواب الأمر ، والجزم إما به نفسه أو بشرط مقدر وهو اختيار الفارسي ونص سيبويه.
(وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) الرهبة الخوف مطلقا ، وقيل : مع تحرز ، وبه فارق الاتقاء لأنه مع حزم ولهذا كان الأول للعامة ، والثاني للأئمة ، والأشبه بمواقع الاستعمال أن الاتقاء التحفظ عن المخوف ، وأن يجعل نفسه في وقاية منه ، والرهبة نفس الخوف ، وفي الأمر بها وعيد بالغ ، وليس ذلك للتهديد والتهويل كما في (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت : ٤٠] كما وهم لأن هذا مطلوب وذاك غير مطلوب كما لا يخفى (وَإِيَّايَ) ضمير منفصل منصوب المحل بمحذوف يفسره المذكور ، والفاء عند بعضهم جزائية زحلقت من الجزاء المحذوف إلى مفسره ليكون دليلا على تقدير الشرط ، ويحتمل أن تكون مفسرة للفاء الجزائية المحذوفة مع الجزاء ، ومن أطلق الجزائية عليها فقد توسع ، ولا يجوز أن تكون عاطفة لئلا يجتمع عاطفان ، واختار صاحب المفتاح أنها للعطف على الفعل المحذوف ، فإن أريد التعقيب الزماني أفادت طلب استمرار الرهبة في جميع الأزمنة بلا تخلل فاصل وإن أريد الرتبي كان مفادها طلب الترقي من رهبة إلى رهبة أعلى ولا يقدح في ذلك اجتماعها مع واو العطف مثلا لأنها لعطف المحذوف على ما قبله وهذه الفاء لعطف المذكور على المحذوف وكون فارهبون مفسرا للمحذوف لا يقتضي اتحاده به من جميع الوجوه وأن لا يفيد معنى سوى التفسير حتى لا يصح جعلها عاطفة واستحسن هذا بعض المتأخرين لاشتماله على معنى بديع خلت عنه الجزائية ، وقال بعضهم كالمتوسط في المسألة : إنها عاطفة بحسب الأصل ، وبعد الحذف زحلقت وجعلت جزائية وعلى كل تقدير فالآية الكريمة آكد في إفادة التخصيص من (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) [الفاتحة : ٥] وعد من وجوه التأكيد تقديم الضمير المنفصل وتأخير المتصل والفاء الموجبة معطوفا عليه ومعطوفا أحدهما مظهر والآخر مضمر تقديره إياي ارهبوا (فَارْهَبُونِ) وما في ذلك من تكرير الرهبة وما فيه من معنى الشرط بدلالة الفاء والمعنى إن كنتم متصفين بالرهبة فخصوني بالرهبة ، وحذف متعلق الرهبة للعموم أي ارهبوني في جميع ما تأتون وتذرون ، وقيل : ارهبون في نقض العهد ؛ ولعل التخصيص به مستفاد من ذكر الأمر بالرهبة معه ثم الخوف خوفان ، خوف العقاب وهو نصيب أهل الظاهر ، وخوف إجلال وهو نصيب أهل القلوب. وما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ أن المعنى ارهبون أن أنزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات التي قد عرفتم من المسخ وغيره ـ ظاهر في قسم أهل الظاهر وهو المناسب بحال هؤلاء المخاطبين ـ الذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ـ وحذفت ياء الضمير من ارهبون لأنها فاصلة ، وقرأ ابن أبي إسحاق بالياء على الأصل (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) عطف على ما قبله ، وظاهره أنه أمر لبني إسرائيل ، وقيل : نزلت في كعب بن الأشرف وأصحابه علماء اليهود ورؤسائهم فهو أمر لهم ، وأفرد سبحانه الإيمان بعد اندراجه في (أَوْفُوا بِعَهْدِي) بمجموع الأمر به والحث عليه المستفاد من قوله تعالى : (مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) للإشارة إلى أنه المقصود ، والعمدة للوفاء بالعهود ، و (بِما) موصولة ، و (أَنْزَلْتُ) صلته والعائد محذوف أي أنزلته ومصدقا حال إما من الموصول أو من ضميره المحذوف. واللام في (لِما) مقوية ،