الصيام لا القيام ، وقد يقال من طريق الإشارة : إن ذكر الليلة للرمز إلى أن هذه المواعدة كانت بعد تمام السير إلى الله تعالى ومجاوزة بحر العوائق والعلائق ، وهناك يكون السير في الله تعالى الذي لا تدرك حقيقته ، ولا تعلم هويته ، ولا يرى في بيداء جبروته إلا الدهشة والحيرة ، وهذا السير متفاوت باعتبار الأشخاص والأزمان ولي مع الله تعالى وقت يشير إلى ذلك (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) والاتخاذ يجيء بمعنى ابتداء صنعة فيتعدى لواحد نحو ـ اتخذت سيفا ـ أي صنعته. وبمعنى اتخاذ وصف فيجري مجرى الجعل ويتعدى لاثنين نحو ـ اتخذت زيدا صديقا ـ والأمران محتملان في الآية ، والمفعول الثاني على الاحتمال الثاني محذوف لشناعته أي (اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) الذي صنعه السامري إلها ، والذم فيه ظاهر لأنهم كلهم عبدوه إلا هارون مع اثني عشر ألفا ، أو إلا هارون والسبعين الذين كانوا مع موسى عليهالسلام ، وعلى الاحتمال الأول لا حاجة إلى المفعول الثاني ويؤيده عدم التصريح به في موضع من آيات هذه القصة ، والذم حينئذ لما ترتب على الاتخاذ من العبادة أو على نفس الاتخاذ لذلك ، والعرب تذم أو تمدح القبيلة بما صدر عن بعضها ، و (الْعِجْلَ) ولد البقرة الصغير وجعله الصوفية إشارة إلى عجل النفس الناقصة وشهواتها وكون ما اتخذوه عجلا ظاهر في أنه صار لحما ودما فيكون عجلا حقيقة ويكون نسبة الخوار إليه فيما يأتي حقيقة أيضا وهو الذي ذهب إليه الحسن ، وقيل : أراد سبحانه بالعجل ما يشبهه في الصورة والشكل ونسبة الخوار إليه مجاز وهو الذي ذهب إليه الجمهور ، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام على ذلك.
ومن الغريب أن هذا إنما سمي عجلا لأنهم عجلوا به قبل قدوم موسى فاتخذوه إلها ، أو لقصر مدته حيث إن موسى عليهالسلام بعد الرجوع من الميقات حرقه ونسفه في اليم نسفا ، والضمير في بعده راجع إلى موسى ، أي (بَعْدِهِ) ما رأيتم منه من التوحيد والتنزيه والحمل عليه والكف عما ينافيه ، وذكر الظرف للإيذان بمزيد شناعة فعلهم ، ولا يقتضي أن يكون (مُوسى) متخذا إلها ـ كما وهم ـ لأن مفهوم الكلام أن يكون الاتخاذ ـ بعد ـ موسى ومن أين يفهم اتخاذ موسى سيما في هذا المقام؟ ويجوز أن يكون في الكلام حذف ، وأقرب ما يحذف مصدر يدل عليه (واعَدْنا) أي من بعد مواعدته ، وقيل : المحذوف الذهاب المدلول عليه ـ بالمواعدة ـ لأنها تقتضيه. والجملة الاسمية في موضع الحال ، ومتعلق الظلم الإشراك ، ووضع العبادة في غير موضعها ، وقيل : الكف عن الاعتراض على ما فعل السامري وعدم الإنكار عليه ـ وفائدة التقييد بالحال ـ الإشعار بكون الاتخاذ ـ ظلما ـ بزعمهم أيضا لو راجعوا عقولهم بأدنى تأمل ، وقيل : الجملة غير حال بل مجرد إخبار أن سجيتهم الظلم وإنما راج فعل السامري عندهم لغاية حمقهم وتسلط الشيطان عليهم ـ كما يدل على ذلك سائر أفعالهم ـ واتخاذ السامري لهم (الْعِجْلَ) دون سائر الحيوانات ، قيل : لأنهم مروا على قوم يعكفون على أصنام لهم على صور البقر فقالوا (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) [الأعراف : ١٣٨] فهجس في نفس السامري أن فتنتهم من هذه الجهة ، فاتخذ لهم ذلك ، وقيل : إنه كان هو من قوم يعبدون البقر ـ وكان منافقا ـ فاتخذ عجلا من جنس ما يعبده.
(ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ثُمَ) لتفاوت ما بين فعلهم القبيح ، ولطفه تعالى في شأنهم ، فلا يكون (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) تكرارا. و «عفا» بمعنى درس يتعدى ولا يتعدى ـ كعفت الدار ، وعفاها الريح ـ والمراد بالعفو هنا ـ محو الجريمة بالتوبة ـ وذلك موضوع موضع «ذلكم» والإشارة ـ للاتخاذ ـ كما هو الظاهر ، وإثبارها لكمال العناية بتمييزه ـ كأنه يجعل ظلمهم مشاهدا لهم ـ وصيغة البعيد مع قربه لتعظيمه ليتوسل بذلك إلى جلالة قدر «العفو» والمراد بالترجي ما علمت ، والمشهور هنا كونه مجازا عن طلب الشكر على «العفو» ومن قدر الإرادة من أهل السنة ـ أراد مطلق الطلب ـ وليس ذلك من الاعتزال ، إذ لا نزاع في أن الله تعالى قد يطلب من العباد ما لا يقع