أنفسهم لسخط الله تعالى ونزول أمره بأن يفك ما ركبه من خلقهم ، وينثر ما نظم من صورهم وأشكالهم حين لم يشكروا النعمة في ذلك وغمطوها بعبادة من لا يقدر على شيء منها ـ وهو مثل في الغباوة والبلادة ـ وقرأ أبو عمرو (بارِئِكُمْ) بالاختلاس ، وروي عنه ـ السكون ـ أيضا وهو من إجراء المتصل من كلمتين مجرى المنفصل من كلمة ، وللناس في تخريجه وجوه لا تخلو عن شذوذ.
(فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) الفاء للتعقيب ، والمتبادر من «القتل» القتل المعروف من إرهاق الروح ـ وعليه جمع من المفسرين ـ والفعل معطوف على سابقه ، فإن كانت توبتهم هو «القتل» إما في حقهم خاصة ، أو توبة المرتد مطلقا في شريعة موسى عليهالسلام ، فالمراد بقوله تعالى : (فَتُوبُوا) اعزموا على التوبة ـ ليصح العطف ـ وإن كانت هي الندم و «القتل» من متمماتها ـ كالخروج عن المظالم في شريعتنا ـ فهو على معناه ولا إشكال ، وقد يقال : إن التوبة جعلت لهؤلاء عين «القتل» ولا حاجة إلى تأويل «توبوا» باعزموا ، بل تجعل ـ الفاء ـ للتفسير ـ كما تجعل الواو له ـ وقد قيل به في قوله تعالى : (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِ) [الأعراف : ٣٦] وظاهر الأمر أنهم مأمورون بأن يباشر كل قتل نفسه ، وفي بعض الآثار أنهم أمروا أن يقتل بعضهم بعضا ، فمعنى «اقتلوا أنفسكم» حينئذ ، ليقتل بعضكم بعضا ، كما في قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٢٩] (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) [الحجرات : ١١] والمؤمنون كنفس واحدة ، وروي أنه أمر من لم يعبد (الْعِجْلَ) أن يقتل من عبده ، والمعنى عليه استسلموا أنفسكم للقتل ، وسمي الاستسلام للقتل قتلا على سبيل المجاز ، والقاتل إما غير معين ، أو الذين اعتزلوا مع هارون عليهالسلام ، والذين كانوا مع موسى عليهالسلام ، وفي كيفية (القتل) أخبار لا نطيل بذكرها ، وجملة القتلى سبعون ألفا ، وبتمامها نزلت التوبة وسقطت الشفار من أيديهم ، وأنكر القاضي عبد الجبار أن يكون الله تعالى أمر بني إسرائيل ـ بقتل أنفسهم ـ وقال : لا يجوز ذلك عقلا ـ إذ الأمر لمصلحة المكلف ـ وليس بعد القتل حال تكليف ليكون فيه مصلحة ، ولم يدر هذا القاضي بأن لنفوسنا خالقا ـ بأمره نستبقيها ، وبأمره نفنيها ـ وأن لها بعد هذه الحياة التي هي لعب ولهو ، حياة سرمدية وبهجة أبدية. وإن الدار الآخرة لهي الحيوان ، وأن قتلها بأمره يوصلها إلى حياة خير منها ، ومن علم أن الإنسان في هذه الدنيا ـ كمجاهد أقيم في ثغر يحرسه ، ووال في بلد يسوسه ـ وأنه مهما استرد فلا فرق بين أن يأمره الملك بخروجه بنفسه ، أو يأمر غيره بإخراجه ـ وهذا واضح لمن تصور حالتي الدنيا والآخرة ، وعرف قدر الحياتين والميتتين فيهما ، ومن الناس من جوز ذلك ـ إلا أنه استبعد وقوعه ـ فقال : معنى «اقتلوا أنفسكم» ذللوا ، ومن ذلك قوله :
إن التي عاطيتني فرددتها |
|
«قتلت قتلت» فهاتها لم تقتل |
ولو لا أن الروايات على خلاف ذلك لقلت به تفسيرا. ونقل عن قتادة أنه قرأ «فأقيلوا أنفسكم» والمعنى أن (أَنْفُسَكُمْ) قد تورطت في عذاب الله تعالى بهذا الفعل العظيم الذي تعاطيتموه ، وقد هلكت ـ فأقيلوها ـ بالتوبة والتزام الطاعة ، وأزيلوا آثار تلك المعاصي بإظهار الطاعات.
(ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ) جملة معترضة للتحريض على التوبة أو معللة ، والإشارة إلى المصدر المفهوم مما تقدم ، و (خَيْرٌ) أفعل تفضيل حذفت همزته ، ونطقوا بها في الشعر قال الراجز : بلال خير الناس وابن الأخير وقد تأتي ـ ولا تفضيل ـ والمعنى أن (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) من العصيان والإصرار على الذنب ـ أو خير من ثمرة العصيان ، وهو الهلاك الدائم ، والكلام ـ على حد العسل ـ أحلى من الخل أو خير من الخيور كائن لكم. والعندية هنا مجاز ، وكرر البارئ بلفظ الظاهر اعتناء بالحث على التسليم له في كل حال ، وتلقي ما يرد من قبله والقبول والامتثال فإنه كما رأى الإنشاء راجحا فأنشأ رأى الإعدام راجحا ، فأمر به وهو العليم الحكيم.