(فَتابَ عَلَيْكُمْ) جواب شرط محذوف بتقدير ـ قد ـ إن كان من كلام موسى عليهالسلام لهم ، تقديره إن فعلتم ما أمرتم به فقد «تاب عليكم» ومعطوف على محذوف ـ إن كان خطابا من الله تعالى لهم ، كأنه قال : ففعلتم ما أمرتم (فَتابَ عَلَيْكُمْ) بارئكم وفيه التفات لتقدم التعبير عنهم في كلام موسى عليهالسلام بلفظ القوم وهو من قبيل الغيبة ، أو من التكلم إلى الغيبة في (فَتابَ) حيث لم يقل : فتبنا ، ورجح العطف لسلامته من حذف الأداة والشرط وإبقاء الجواب ، وفي ثبوت ذلك عن العرب مقال ، وظاهر الآية كونها إخبارا عن المأمورين بالقتل الممثلين ذلك وقال ابن عطية : جعل الله تعالى ـ القتل ـ لمن ـ قتل ـ شهادة و «تاب» عن الباقين و «عفا» عنهم ، فمعنى (عَلَيْكُمْ) عنده ، على باقيكم (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) تذييل لقوله تعالى : (فَتُوبُوا) فإن التوبة بالقتل ـ لما كانت شاقة على النفس هونها سبحانه بأنه هو الذي يوفق إليها ويسهلها ويبالغ في الإنعام على من أتى بها ، أو تذييل لقوله تعالى : (فَتابَ عَلَيْكُمْ) وتفسر «التوبة» منه تعالى حينئذ بالقبول لتوبة المذنبين ـ والتأكيد لسبق الملوح ـ أو للاعتناء بمضمون الجملة ، والضمير المنصوب إن كان ضمير لشأن ـ فالضمير المرفوع مبتدأ ـ وهو الأنسب لدلالته على كمال الاعتناء بمضمون الجملة ، وإن كان راجعا إلى البارئ سبحانه فالضمير المرفوع إما فصل أو مبتدأ ، هذا وحظ العارف من هذه القصة أن يعرف أن هواه بمنزلة عجل بني إسرائيل ـ فلا يتخذه إلها ـ أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ، وأن الله سبحانه قد خلق نفسه في أصل لفطرة مستعدة لقبول فيض الله تعالى والدين القويم ومتهيئة لسلوك المنهج المستقيم ، والترقي إلى جناب القدس وحضرة الأنس ، وهذا هو الكتاب الذي أوتيه موسى القلب ، والفرقان الذي يهتدي بنوره في ليالي السلوك إلى حضرة الرب ، فمتى أخلدت النفس إلى الأرض واتبعت هواها ، وآثرت شهواتها على مولاها ، أمرت بقتلها بكسر شهواتها وقلع مشتهياتها ليصح لها البقاء بعد الفناء ، والصحو بعد المحو ، وليست التوبة الحقيقية سوى محو البشرية بإثبات الألوهية ، وهذا هو الجهاد الأكبر والموت الأحمر.
ليس من مات فاستراح بميت |
|
إنما الميت ميت الأحياء |
وهذا صعب لا يتيسر إلا لخواص الحق ، ورجال الصدق ، وإليه الإشارة ، ب (موتوا) قبل أن تموتوا. وقيل : أول قدم في العبودية إتلاف النفس وقتلها بترك الشهوات ، وقطعها عن الملاذ ، فكيف الوصول إلى شيء من منازل الصديقين ومعارج المقربين ـ هيهات هيهات ـ ذاك بمعزل عنا ، ومناط الثريا منا
تعالوا نقم مأتما للهموم |
|
فإن الحزين يواسي الحزينا |
(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) القائل هم السبعون الذين اختارهم موسى عليهالسلام لميقات التوراة ، قيل : قالوه بعد الرجوع ، وقتل عبدة العجل ، وتحريق عجلهم ، ويفهم من بعض الآثار أن القائل أهل الميقات الثاني الذي ضربه الله تعالى للاعتذار عن عبدة العجل ـ وكانوا سبعين أيضا ، وقيل : القائل عشرة آلاف من قومه ، وقيل : الضمير لسائر بني إسرائيل ـ إلا من عصمه الله تعالى ـ وسيأتي إن شاء الله تعالى في الأعراف ما ينفعك هنا ـ واللام ـ من (لك) إما ـ لام الأجل ـ أو للتعدية بتضمين معنى الإقرار على أن (مُوسى) مقرّ له والمقر به محذوف ، وهو أن الله تعالى أعطاه التوراة ، أو أن الله تعالى كلمه فأمره ونهاه ، وقد كان هؤلاء مؤمنين ـ من قبل ـ بموسى عليهالسلام ، إلا أنهم نفوا هذا الإيمان المعين والإقرار الخاص. وقيل : أرادوا نفي الكمال أي لا يكمل إيماننا لك ، كما قيل في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه» والقول إنهم لم يكونوا مؤمنين أصلا لم نره لأحد من أئمة التفسير.
(حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً حَتَّى) هنا حرف غاية ، و (الجهرة) في الأصل مصدر جهرت بالقراءة ـ إذا رفعت