(كُلُوا) و (فَكُلُوا) فلا يتم الجواب وأما الثالث فلأنه تعالى ـ وإن قال في الأعراف : (وَإِذْ قِيلَ) ـ لكنه قال في السورتين : (نَغْفِرْ لَكُمْ) وأضاف ـ الغفران ـ إلى نفسه ، فبحكم تلك اللياقة ينبغي أن يذكر في السورتين ـ جمع الكثرة ـ بل لا شك أن رعاية (نَغْفِرْ لَكُمْ) أولى من رعاية (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ) لتعلق ـ الغفران بالخطايا ـ كما لا يخفى على العارف بالمزايا. وأما الرابع فلأنه تعالى ـ وإن لم يسند الفعل إلى نفسه تعالى ـ لكنه مسند إليه في نفس الأمر ، فينبغي أن يذكر الإنعام الأعظم في السورتين. وأما الخامس فلأن القصة واحدة ، وكون بعضهم مذنبين وبعضهم غير مذنبين محقق ـ فعلى مقتضى ما ذكر ـ ينبغي أن يذكر (وَقُولُوا حِطَّةٌ) مقدما في السورتين وأما السادس فلأن القصة واحدة ، وأن ـ الواو ـ لمطلق الجمع ، وقوله تعالى (نَغْفِرْ) في مقابلة (قُولُوا) سواء قدم أو أخر ، وقوله تعالى : (وَسَنَزِيدُ) في مقابلة (وَادْخُلُوا) سواء ذكر ـ الواو ـ أو ترك ، وأما السابع فلأنه تعالى قد ذكر هنا قبل (فَبَدَّلَ) ما يدل على التخصيص والتمييز ، حيث قال سبحانه : (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) إلخ بكافات الخطاب وصيغته ـ فاللائق حينئذ ـ أن يذكر لفظ (مِنْهُمْ) أيضا ، والجواب الصحيح عن جميع هذه السؤالات وما حاكاها ـ ما ذكره الزمخشري ـ من أنه لا بأس باختلاف العبارتين إذا لم يكن هناك تناقض ، ولا تناقض بين قوله تعالى : (اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) وقوله : (وَكُلُوا) لأنهم إذا سكنوا القرية فتسبب سكناهم للأكل منها ، فقد جمعوا في الوجود بين سكناها والأكل منها ، وسواء قدموا «الحطة» على ـ دخول الباب ـ أو أخروها ، فهم جامعون في الإيجاد بينهما ، وترك ذكر ـ الرغد ـ لا يناقض إثباته ، وقوله تعالى : (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف : ١٦١] موعد بشيئين ـ بالغفران والزيادة ، وطرح ـ الواو ـ لا يخل لأنه استئناف مرتب على تقدير قول القائل : ما ذا بعد الغفران؟ فقيل له (سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) وكذلك زيادة (منهم) زيادة بيان (وَأَرْسَلْنا) و (أَنْزَلْنا) و (يَظْلِمُونَ) و (يَفْسُقُونَ) من دار واحد ، انتهى.
وبالجملة التفنن في التعبير لم يزل دأب البلغاء ، وفيه من الدلالة على رفعة شأن المتكلم ما لا يخفى ، والقرآن الكريم مملوء من ذلك ، ومن رام بيان سر لكل ما وقع فيه منه فقد رام ما لا سبيل إليه إلا بالكشف الصحيح والعلم اللدني ، والله يؤتي فضله من يشاء ، وسبحان من لا يحيط بأسرار كتابه إلا هو.
ومن باب الإشارة في الآيات وإذ قلتم لموسى ـ القلب (لَنْ نُؤْمِنَ) الإيمان الحقيقي حتى نصل إلى مقام المشاهدة والعيان ـ فأخذتكم صاعقة الموت ـ الذي هو الفناء في التجلي الذاتي ـ وأنتم تراقبون أو تشاهدون ـ ثم بعثناكم بالحياة الحقيقية والبقاء بعد الفناء لكي تشكروا نعمة التوحيد والوصول بالسلوك في الله عزوجل ، ـ وظللنا عليكم غمام تجلي الصفات ـ لكونها حجب شمس الذات المحرقة سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره. (وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ) من الأحوال والمقامات الذوقية الجامعة بين الحلاوة وإذهاب رذائل أخلاق النفس ، كالتوكل والرضا وسلوى الحكم والمعارف والعلوم الحقيقية التي يحشرها عليكم ريح الرحمة ، والنفحات الإلهية في تيه الصفات عند سلوككم فيها ، فتسلون بذلك (السَّلْوى) وتنسون من لذائذ الدنيا كل ما يشتهى (كُلُوا) أي تناولوا وتلقوا هذه الطيبات التي رزقتموها حسب استعدادكم ، وأعطيتموها على ما وعد لكم (وَما ظَلَمُونا) أي ما نقصوا حقوقنا وصفاتنا باحتجابهم بصفات أنفسهم ، ولكن كانوا ناقصين حقوق أنفسهم بحرمانها وخسرانها ، وهذا هو الخسران المبين (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) أي المحل المقدس الذي هو مقام المشاهدة (وَادْخُلُوا الْبابَ) الذي هو الرضا بالقضاء ، فهو باب الله تعالى الأعظم (سُجَّداً) منحنين خاضعين لما يرد عليكم من التجليات ، واطلبوا أن يحط الله تعالى عنكم ذنوب صفاتكم وأخلاقكم وأفعالكم ، فإن فعلتم ذلك (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ) «فمن تقرب إليّ شبرا تقربت إليه ذراعا ، ومن تقرب إليّ ذراعا ، تقربت إليه باعا ، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة» (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) أي