الكلمة الثانية تسد الأولى (١) ، وعلى هذا جرى الخلاف ـ كما في البحر ـ في قراءة بالمعنى وروي الحديث به ، وجرى في تكبيرة الإحرام ، وفي تجويز النكاح بلفظ الهبة والبيع والتمليك ، والبحث مفصل في محله هذا. وقد ذكر مولانا الإمام الرازي رحمهالله تعالى أن هذه الآية ذكرت في الأعراف مع مخالفة من وجوه لنكات. «الأول» قال هنا : (وإذ قلنا) لما قدم ذكر النعم ، فلا بد من ذكر المنعم ، وهناك (وإذا قيل) إذ لا إبهام بعد تقديم التصريح به. «الثاني» قال هنا : (ادْخُلُوا) وهناك (اسْكُنُوا) [الأعراف : ١٦١] لأن الدخول مقدم ، ولذا قدم وضعا المقدم طبعا. «الثالث» قال هنا : (خَطاياكُمْ) ـ بجمع الكثرة ـ لما أضاف ذلك القول إلى نفسه ، واللائق بجوده غفران الذنوب الكثيرة ، وهناك (خَطِيئاتِكُمْ) [الأعراف : ١٦١] ـ بجمع القلة ـ إذ لم يصرح بالفاعل «الرابع» قال هنا : (رغدا) دون هناك لإسناد الفعل إلى نفسه هنا ، فناسب ذكر الإنعام الأعظم وعدم الإسناد هناك.
«الخامس» قال هنا : (ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ) وهناك بالعكس ، لأن ـ الواو ـ لمطلق الجمع ، وأيضا المخاطبون يحتمل أن يكون بعضهم مذنبين ، والبعض الآخر ما كانوا كذلك ، فالمذنب لا بد وأن يكون اشتغاله بحط الذنب مقدما على اشتغاله بالعبادة ، فلا جرم كان تكليف هؤلاء أن يقولوا : (حِطَّةٌ) ثم ـ يدخلوا ـ وأما الذي لا يكون مذنبا ، فالأولى به أن يشتغل «أولا» بالعبادة ثم يذكر التوبة «ثانيا» للهضم وإزالة العجب فهؤلاء يجب أن ـ يدخلوا ثم يقولوا ـ فلما احتمل كون أولئك المخاطبين منقسمين إلى ذين القسمين ، لا جرم ذكر حكم كل واحد منهما في سورة أخرى «السادس» قال هنا : (وَسَنَزِيدُ) ـ بالواو ـ وهناك بدونه ، إذ جعل هنا ـ المغفرة ـ مع الزيادة جزاء واحدا لمجموع الفعلين ، وأما هناك فالمغفرة جزاء قول (حِطَّةٌ) والزيادة جزاء الدخول فترك ـ الواو ـ يفيد توزع كل من الجزاءين على كل من الشرطين «السابع» قال هناك : (الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) [الأعراف : ١٦٢] وهنا لم يذكر (منهم) لأن أول القصة هناك مبني على التخصيص ب (من) حيث قال : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِ) [الأعراف : ١٥٩] فخص في آخر الكلام ليطابق أوله ، ولما لم يذكر في الآيات التي قبل (فَبَدَّلَ) هنا تمييزا وتخصيصا لم يذكر في آخر القصة ذلك. «الثامن» قال هنا : (فَأَنْزَلْنا) وهناك (فَأَرْسَلْنا) [الأعراف : ١٦٢] لأن الإنزال يفيد حدوثه في أول الأمر ، والإرسال يفيد تسليطه عليهم واستئصاله لهم ، وذلك يكون بالآخرة. «التاسع» قال هنا : (فَكُلُوا) ـ بالفاء ـ وهناك ـ بالواو ـ لما مر في (وَكُلا مِنْها رَغَداً) [البقرة : ٣٥] وهو أن كل فعل عطف عليه شيء ـ وكان الفعل بمنزلة الشرط ، وذلك الشيء بمنزلة الجزاء ـ عطف الثاني على الأول ـ بالفاء ـ دون ـ الواو ـ فلما تعلق الأكل بالدخول قيل في سورة البقرة (فَكُلُوا) ولما لم يتعلق ـ الأكل بالسكون ـ في الأعراف ، قيل : (وَكُلُوا) [الأعراف : ٣١ ، ١٦١] «العاشر» قال هنا : (يَفْسُقُونَ) وهناك يظلمون لأنه لما بين هنا كون الفسق ظلما اكتفى بلفظ ـ الظلم ـ هناك انتهى ولا يخفى ما في هذه الأجوبة من النظر ، أما في الأول والثاني والثامن والعاشر فلأنها إنما تصح إذا كانت سورة البقرة متقدمة على سورة الأعراف نزولا ـ كما أنها متقدمة عليها ترتيبا ـ وليس كذلك ، فإن سورة البقرة كلها مدنية ، وسورة الأعراف كلها مكية إلا ثمان آيات من قوله تعالى (واسألهم عن القرية) إلى قوله تعالى : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ) [الأعراف : ١٦٣ ـ ١٧١] وقوله تعالى : (اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) [الأعراف : ١٦١] داخل في الآيات المكية ، فحينئذ لا تصح الأجوبة المذكورة. وأما ما ذكر في التاسع فيرد عليه منع عدم تعلق ـ الأكل بالسكون ـ لأنهم إذا سكنوا القرية ، تتسبب سكناهم ـ للأكل ـ منها كما ذكر الزمخشري ، فقد جمعوا في الوجود بين سكناها والأكل منها ، فحينئذ لا فرق بين
__________________
(١) قوله : تسد الأولى كذا بخط مؤلفه ، ولعل فيه سقطا من قلمه ، والأصل تسد مسد الأولى ا ه.