أخذ في كلام آخر وكونه عائدا إليه تعالى ـ أي قال الله : (فَأُمَتِّعُهُ) يا قادر يا رازق خطابا لنفسه على طريق التجريد ـ بعيد جدا لا ينبغي أن يلتفت إليه.
(ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ) الاضطرار ضد الاختيار وهو حقيقة في كون الفعل صادرا من الشخص من غير تعلق إرادته به كمن ألقى من السطح مثلا مجاز في كون الفعل باختياره لكن بحيث لا يملك الامتناع عنه بأن عرض له عارض يقسره على اختياره كمن أكل الميتة حال المخمصة وبكلا المعنيين قال بعض ، ويؤيد الأول قوله تعالى : (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) [الطور : ١٣] و (يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ) [القمر : ٤٨] و (فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) [الرحمن : ٤١] ويؤيد الثاني قوله تعالى : (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها) [الزمر : ٧١] (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) [مريم : ٧١] الآية و (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) [الأنبياء : ٩٨] والتحقيق أن أحوال الكفار يوم القيامة عند إدخالهم النار شتى وبذلك يحصل الجمع بين الآيات وإن الاضطرار مجاز عن كون العذاب واقعا به وقوعا محققا حتى كأنه مربوط به ، قيل : إن هذا الاضطرار في الدنيا وهو مجاز أيضا كأنه شبه حال الكافر الذي أدرّ الله تعالى عليه النعمة التي استدناه بها قليلا إلى ما يهلكه بحال من لا يملك الامتناع مما اضطر إليه فاستعمل في المشبه ما استعمل في المشبه به وهو كلام حسن لو لا أنه يستدعي ظاهرا حمل (ثُمَ) على التراخي الرتبي وهو خلاف الظاهر ، وقرأ ابن عامر ـ اضطره ـ بكسر الهمزة ، ويزيد بن أبي حبيب ـ اضطره ـ بضم الطاء وأبيّ ـ نضطره ـ بالنون ، وابن عباس. ومجاهد على صيغة الأمر ، وابن محيصن ـ أطره ـ بإدغام الضاد في الطاء خبرا ـ قال الزمخشري ـ وهي لغة مرذولة لأن حروف ضم شفر يدغم فيها ما يجاورها دون العكس ، وفيه أن هذه الحروف أدغمت في غيرها فأدغم أبو عمرو الراء في اللام في (نَغْفِرْ لَكُمْ) [البقرة : ٢٨٤ ، الأعراف : ١٦١] والضاد في الشين في ـ (لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ) ـ والشين في السين في (الْعَرْشِ سَبِيلاً) [الإسراء : ٤٢] والكسائي الفاء في الباء في (نَخْسِفْ بِهِمُ) [سبأ : ٩] ونقل سيبويه عن العرب أنهم قالوا ـ مضطجع ومطجع ـ إلا أن عدم الإدغام أكثر ، وأصل اضطر على هذا على ما قيل : اضتر فأبدلت التاء طاء ، ثم وقع الإدغام (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) المخصوص بالذم محذوف لفهم المعنى أي ـ وبئس المصير النار ـ إن كان المصير اسم مكان وإن كان مصدرا على من أجاز ذلك فالتقدير وبئست الصيرورة صيرورته إلى العذاب (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ) عطف على (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) وإذ للمضي وآثر صيغة المضارع مع أن القصة ماضية استحضارا لهذا الأمر ليقتدي الناس به في إتيان الطاعات الشاقة مع الابتهال في قبولها وليعلموا عظمة البيت المبني فيعظموه (الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) القواعد جمع قاعدة وهي الأساس كما قاله أبو عبيدة صفة صارت بالغلبة من قبيل الأسماء الجامدة بحيث لا يذكر لها موصوف ولا يقدر من القعود بمعنى الثبات ، ولعله مجاز من المقابل للقيام ، ومنه قعدك الله تعالى في الدعاء بمعنى أدامك الله تعالى وثبتك ، ورفع القواعد على هذا المعنى مجاز عن البناء عليها إذ الظاهر من رفع الشيء جعله عاليا مرتفعا ، والأساس لا يرتفع بل يبقى بحاله لكن لما كانت هيئته قبل البناء عليه الانخفاض ولما بني عليه انتقل إلى هيئة الارتفاع بمعنى أنه حصل له مع ما بني عليه تلك الهيئة صار البناء عليه سببا للحصول كالرفع فاستعمل الرفع في البناء عليه واشتق من ذلك (يَرْفَعُ) بمعنى يبنى عليها ، وقيل : (الْقَواعِدَ) ساقات البناء وكل ساق قاعدة لما فوقه ، فالمراد برفعها على هذا بناؤها نفسها ، ووجه الجمع عليه ظاهر وعلى الأول لأنها مربعة ولكل حائط أساس ، وضعف هذا القول بأن فيه صرف لفظ (الْقَواعِدَ) عن معناه المتبادر وليس هو كصرف الرفع في الأول ، وقيل : الرفع بمعنى الرفعة والشرف ، و (الْقَواعِدَ) بمعناه الحقيقي السابق فهو استعارة تمثيلية ـ وفيه بعد ـ إذ لا يظهر حينئذ فائدة لذكر (الْقَواعِدَ). و (مِنَ) ابتدائية