رَبُّهُ أَسْلِمْ) أي وحّد وأسلم لله تعالى ذاتك (قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) وفنيت فيه (وَوَصَّى) بكلمة التوحيد (إِبْراهِيمُ بَنِيهِ) السالكين على يده وكذلك يعقوب (يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ) دينه الذي لا دين غيره عنده (فَلا تَمُوتُنَ) بالموت الطبيعي وموت الجهل ، بل كونوا ميتين بأنفسكم ، أحياء بالله أبدا ، فيدرككم موت البدن على هذه الحالة (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) فلا تكونوا مقيدين بالتقليد البحت لهم ، فليس لأحد إلا ما كسب من العلم والعمل والاعتقاد والسيرة ، فكونوا على بصيرة في أمركم ، واطلبوا ما طلبوا لتنالوا ما نالوا (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) ومن دق باب الكريم ولجّ ولج.
(وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا) الضمير الغائب لأهل الكتاب ، والجملة عطف على ما قبلها عطف القصة على القصة ، والمراد منها رد دعوتهم إلى دينهم الباطل إثر رد ادعائهم اليهودية على يعقوبعليهالسلام ، و (أَوْ) لتنويع المقال ـ لا للتخيير ـ بدليل أن كل واحد من الفريقين يكفر الآخر ، أي قال اليهود للمؤمنين (كُونُوا هُوداً) وقالت النصارى لهم كونوا (نَصارى) و (تَهْتَدُوا) جواب الأمر ، أي إن كنتم كذلك (تَهْتَدُوا). روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في رءوس يهود المدينة ، كعب بن الأشرف. ومالك بن الصيف. ووهب بن يهوذا. وأبي ياسر بن أخطب. وفي نصارى أهل نجران ، وذلك أنهم خاصموا المسلمين في الدين ، كل فرقة تزعم أنها أحق بدين الله من غيرها ، فقالت اليهود : نبينا موسى أفضل الأنبياء ، وكتابنا التوراة أفضل الكتب ، وديننا أفضل الأديان ، وكفرت بعيسى والإنجيل ومحمد والقرآن ، وقالت النصارى : نبينا عيسى أفضل الأنبياء ، وكتابنا الإنجيل أفضل الكتب ، وديننا أفضل الأديان ، وكفرت بمحمد والقرآن ، وقال كل واحد من الفريقين للمؤمنين : (كُونُوا) على ديننا ، فلا دين إلا ذلك ، في رواية ابن إسحاق وابن جرير وغيرهما عنه أن عبد الله بن صوريا الأعور قال للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم : ما الهدى إلا ما نحن عليه ، فاتبعنا يا محمد تهتد ، وقالت النصارى مثل ذلك فأنزل الله تعالى فيهم الآية (قُلْ) خطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، أي قل لأولئك القائلين على سبيل الرد عليهم ، وتبيين ما هو الحق لديهم وإرشادهم إليه (بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) أي لا نكون كما تقولون ، بل نكون (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) أي أهل ـ ملته ـ أو بل نتبع (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) «والأول» يقتضيه رعاية جانب لفظ ما تقدم ـ وإن احتاج إلى حذف المضاف «والثاني» يقتضيه الميل إلى جانب المعنى إذ يؤول الأول إلى اتبعوا ملة اليهود أو النصارى مع عدم الاحتياج إلى التقدير ، وجوّز أن يكون المعنى بل اتبعوا أنتم ملته ، أو كونوا أهل ملته ، وقيل : الأظهر بل نؤتى ملة إبراهيم ـ ولم يظهر لي وجهه ـ وقرئ (بَلْ مِلَّةَ) بالرفع ، أي بل ملتنا أو أمرنا ملته أو نحن ملته أي أهلها ، وقيل : بل الهداية أو تهدى ملة إبراهيم وهو كما ترى (حَنِيفاً) أي مستقيما أو مائلا عن الباطل إلى الحق ويوصف به المتدين والدين ، وهو حال إما من المضاف بتأويل الدين أو تشبيها له بفعيل بمعنى مفعول كما في قوله تعالى : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف : ٥٦] وهذا على قراءة النصب وتقدير «نتبع» ظاهر ، وأما على تقدير تكون عليها فلأن ملة فاعل الفعل المستفاد من الإضافة أي تكون ملة ثبتت لإبراهيم ، وعلى قراءة الرفع تكون الحال مؤكدة لوقوعها بعد جملة اسمية جزءاها جامدان معرفتان مقررة لمضمونها لاشتهار ملته عليه الصلاة والسلام بذلك فالنظم على حد ـ أنا حاتم جوادا ـ أو من المضاف إليه بناء على ما ارتضوه من أنه يجوز مجيء الحال منه في ثلاث صور : إذا كان المضاف مشتقا عاملا ، أو جزءا ، أو بمنزلة الجزء في صحة حذفه كما هنا فإنه يصح ـ اتبعوا إبراهيم ـ بمعنى اتبعوا ملته ، وقيل : إن الذي سوغ وقوع الحال من المضاف إليه كونه مفعولا لمعنى الفعل المستفاد من الإضافة أو اللام ـ وإليه يشير كلام أبي البقاء ـ ولعله أولى لاطراده في التقدير الأول ، وقيل : هو منصوب بتقدير أعني (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) عطف على حنيفا على طبق (حُنَفاءَ