الوجوب ـ وعليه أبو مسلم والجبائي ـ وإما في الوقت والمقدار بناء على أن أهل الكتاب فرض عليهم صوم رمضان فتركه اليهود إلى صوم يوم من السنة زعموا أنه اليوم الذي أغرق فيه فرعون ، وزاد فيه النصارى يوما قبل ويوما بعد احتياطا حتى بلغوا فيه خمسين يوما فصعب عليهم في الحر فنقلوه إلى زمن نزول الشمس برج الحمل ، وأخرج ابن حنظلة والنحاس والطبراني عن مغفل بن حنظلة مرفوعا كان على النصارى صوم شهر رمضان فمرض ملكهم فقالوا : لئن شفاه الله تعالى لنزيدن عشرا ، ثم كان آخر فأكل لحما فأوجع فوه فقالوا : لئن شفاه الله لنزيدن سبعة ، ثم كان عليهم ملك آخر فقال : ما ندع من هذه الثلاثة أيام شيئا أن نتمها ونجعل صومنا في الربيع ففعل فصارت خمسين يوما ، وفي (كَما) خمسة أوجه. أحدها أن محله النصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي ـ كتب كتبا ـ مثل ما كتب. الثاني أنه في محل نصب حال من المصدر المعرفة أي ـ كتب عليكم الصيام الكتب ـ مشبها بما كتب ، و «ما» على الوجهين مصدرية. الثالث أن يكون نعتا لمصدر من لفظ الصيام أي صوما مماثلا للصوم المكتوب على من قبلكم. الرابع أن يكون حالا من الصيام أي حال كونه مماثلا لما كتب ، و «ما» على الوجهين موصولة. الخامس أن يكون في محل رفع على أنه صفة للصيام بناء على أن المعرف ـ بال ـ الجنسية قريب من النكرة (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي كي تحذروا المعاصي فإن الصوم يعقم الشهوة التي هي أمها أو يكسرها. فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال : «قال لنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» ويحتمل أن يقدر المفعول الإخلال بأدائه ، وعلى الأول يكون الكلام متعلقا بقوله (كُتِبَ) من غير نظر إلى التشبيه ، وعلى الثاني بالنظر إليه أي كتب عليكم مثل ما كتب على الأولين لكي ـ تتقوا ـ الإخلال بأدائه بعد العلم بأصالته وقدمه ولا حاجة إلى تقدير محذوف أي أعلمتكم الحكم المذكور لذلك ـ كما قيل به ـ وجوز أن يكون الفعل منزلا منزلة اللازم أي لكي تصلوا بذلك إلى رتبة التقوى.
(أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) أي معينات بالعد أو قليلات لأن القليل يسهل عده فيعد والكثير يؤخذ جزافا قال مقاتل : كل (مَعْدُوداتٍ) في القرآن أو ـ معدودة ـ دون الأربعين ولا يقال ذلك لما زاد ، والمراد بهذه الأيام إما رمضان واختار ذلك ابن عباس والحسن وأبو مسلم رضي الله تعالى عنه وأكثر المحققين ـ وهو أحد قولي الشافعي ـ فيكون الله سبحانه وتعالى قد أخبر أولا أنه كتب علينا الصيام ثم بينه بقوله عزوجل : (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) فزال بعض الإبهام ثم بينه بقوله عزّ من قائل : (شَهْرُ رَمَضانَ) توطينا للنفس عليه ، واعترض بأنه لو كان المراد ذلك لكان ذكر المريض والمسافر تكرارا ، وأجيب بأنه كان في الابتداء صوم رمضان واجبا على التخيير بينه وبين الفدية فحين نسخ التخيير وصار واجبا على التعيين كان مظنة أن يتوهم أن هذا الحكم يعم الكل حتى يكون المريض والمسافر فيه كالمقيم والصحيح فأعيد حكمهما تنبيها على أن رخصتهما باقية بحالها لم تتغير كما تغير حكم المقيم والصحيح وأما ما وجب صومه قبل وجوبه وهو ثلاثة أيام من كل شهر ـ وهي أيام البيض ـ على ما روي عن عطاء ونسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنه ، أو ثلاثة من كل شهر ويوم عاشوراء على ما روي عن قتادة ، واتفق أهل هذا القول على أن هذا الواجب قد نسخ بصوم رمضان ، واستشكل بأن فرضيته إنما ثبتت بما في هذه الآية فإن كان قد عمل بذلك الحكم مدة مديدة ـ كما قيل به ـ فكيف يكون الناسخ متصلا وإن لم يكن عمل به لا يصح النسخ إذ لا نسخ قبل العمل ، وأجيب أما على اختيار الأول فبأن الاتصال في التلاوة لا يدل على الاتصال في النزول ، وأما على اختيار الثاني فبأن الأصح جواز النسخ قبل العمل فتدبر.