شهوة الإنسان لتحري الخيانة أو الخيانة البليغة فيكون المعنى تنقصون أنفسكم تنقيصا تاما بتعريضها للعقاب وتنقيص حظها من الثواب ، ويؤول إلى معنى تظلمونها بذلك ، والمراد الاستمرار عليه فيما مضى قبل إخبارهم بالحال كما ينبئ عنه صيغتا الماضي والمضارع وهو متعلق العلم ، وما تفهمه الصيغة الأولى من تقدم كونهم على الخيانة على العلم يأبى حمله على الأزلي الذاهب إليه البعض (فَتابَ عَلَيْكُمْ) عطف على (عَلِمَ) والفاء لمجرد التعقيب ، والمراد قبل توبتكم حين تبتم عن المحظور الذي ارتكبتموه (وَعَفا عَنْكُمْ) أي محا أثره عنكم وأزال تحريمه ، وقيل : الأول لإزالة التحريم وهذا لغفران الخطيئة (فَالْآنَ) مرتب على قوله سبحانه وتعالى (أُحِلَّ لَكُمْ) نظرا إلى ما هو المقصود من الإحلال وهو إزالة التحريم أي حين نسخ عنكم تحريم القربان وهو ليلة الصيام كما يدل عليه الغاية الآتية فإنها غاية للأوامر الأربعة التي هذا ظرفها ، والحضور المفهوم منه بالنظر إلى فعل نسخ التحريم وليس حاضرا بالنظر إلى الخطاب بقوله تعالى : (بَاشِرُوهُنَ) ، وقيل : إنه وإن كان حقيقة في الوقت الحاضر إلا أنه قد يطلق على المستقبل القريب تنزيلا له منزلة الحاضر وهو المراد هنا أو أنه مستعمل في حقيقته والتقدير قد أبحنا لكم مباشرتهن ، وأصل المباشرة إلزاق البشرة بالبشرة وأطلقت على الجماع للزومها لها.
(وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) أي اطلبوا (ما) قدره (اللهُ) تعالى (لَكُمْ) في اللوح من الولد ، وهو المروي عن ابن عباس والضحاك ومجاهد رضي الله تعالى عنهم وغيرهم. والمراد الدعاء بطلب ذلك بأن يقولوا : اللهم ارزقنا ما كتبت لنا ، وهذا لا يتوقف على أن يعلم كل واحد أنه قدر له ولد ، وقيل : المراد ما قدره لجنسكم والتعبير ب (ما) نظرا إلى الوصف كما في قوله تعالى : (وَالسَّماءِ وَما بَناها) [الشمس : ٥] وفي الآية دلالة على أن المباشر ينبغي أن يتحرى بالنكاح حفظ النسل ـ لا قضاء الشهوة فقط ـ لأنه سبحانه وتعالى جعل لنا شهوة الجماع لبقاء نوعنا إلى غاية كما جعل لنا شهوة الطعام لبقاء أشخاصنا إلى غاية ، ومجرد قضاء الشهوة لا ينبغي أن يكون إلا للبهائم ، وجعل بعضهم هذا الطلب كناية عن النهي عن العزل ، أو عن إتيان المحاش ، وبعض فسر من أول مرة ما كتب بما سن وشرع من صب الماء في محله ، أي اطلبوا ذلك دون العزل والإتيان المذكورين ـ والمشهور حرمتهما ـ أما الأول فالمذكور في الكتب فيه أنه لا يعزل الرجل عن الحرة بغير رضاها ، وعن الأمة المنكوحة بغير رضاها أو رضا سيدها على الاختلاف بين الإمام وصاحبيه ، ولا بأس بالعزل عن أمته بغير رضاها إذ لا حق لها.
وأما الثاني فسيأتي بسط الكلام فيه على أتم وجه إن شاء الله تعالى. وروي عن أنس رضي الله تعالى عنه تفسير ذلك بليلة القدر. وحكي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أيضا وعن قتادة أن المراد (ابْتَغُوا) الرخصة (الَّتِي كَتَبَ اللهُ) تعالى (لَكُمْ) فإن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه ، وعليه تكون الجملة كالتأكيد لما قبلها ، وعن عطاء أنه سأل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كيف تقرأ هذه الآية (ابْتَغُوا) أو «اتبعوا»؟ فقال : أيهما شئت ، وعليك بالقراءة الأولى (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) الليل كله (حَتَّى يَتَبَيَّنَ) أي يظهر (لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ) وهو أول ما يبدو من الفجر الصادق المعترض في الأفق قبل انتشاره ، وحمله على الفجر الكاذب المستطيل الممتد كذنب السرحان وهم (مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) وهو ما يمتد مع بياض الفجر من ظلمة آخر الليل (مِنَ الْفَجْرِ) بيان لأول الخيطين ـ ومنه يتبين الثاني ـ وخصه بالبيان لأنه المقصود وقيل : بيان لهما بناء على أن (الْفَجْرِ) عبارة عن مجموعهما لقول الطائي : * وأزرق الفجر يبدو قبل أبيضه* فهو على وزان قولك : حتى يتبين العالم من الجاهل من القوم ، وبهذا البيان خرج الخيطان عن الاستعارة إلى التشبيه لأن شرطها عندهم تناسيه بالكلية ، وادعاء أن المشبه هو المشبه به لو لا القرينة والبيان ينادي على أن المراد ـ مثل هذا الخيط وهذا الخيط ـ إذ هما لا يحتاجان إليه ، وجوّز أن