وأيده بعضهم بأن شوب الظلمة بالضياء كما أنه لم يمنع من الليلية بعد غروب الشمس ينبغي أن لا يمنع منها قبل طلوعها وتساوي طرفي الشيء مما يستحسن في الحكمة وإلى البدء يكون العود ، وفيه أن النهار في الخبر بعد تسليم صحته يحتمل أن يكون بالمعنى العرفي ولو أراده سبحانه وتعالى في هذا الحكم لقال : وكلوا واشربوا إلى النهار (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) مع أنه أخصر وأوفق مما عدل إليه فحيث لم يفعل فهم أن الأمر مربوط بالفجر لا بطلوع الشمس سواء عد ذلك نهارا أم لا ، وما ذكر من استحسان تساوي طرفي الشيء مع كونه ـ مما لا يسمن ولا يغني من جوع ـ في هذا الباب يمكن معارضته بأن جعل أول النهار كأول الليل وهما متقابلان مما يدل على عظم قدرة الصانع الحكيم وإلى الانتهاء غاية الإتمام ، ويجوز أن يكون حالا من الصيام فيتعلق بمحذوف ولا يجوز جعله غاية للإيجاب لعدم امتداده ، وعلى التقديرين تدل الآية على نفي كون الليل محل الصوم وأن يكون صوم اليومين صومة واحدة ، وقد استنبط النبي صلى الله تعالى عليه وسلم منها حرمة الوصال كما قيل ، فقد روى أحمد من طريق ليلى امرأة بشير بن الخصاصية قالت : أردت أن أصوم يومين مواصلة فمنعني بشير وقال : إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نهى عنه ، وقال : يفعل ذلك النصارى ولكن صوموا كما أمركم الله تعالى ، و (أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) فإذا كان الليل فافطروا ، ولا تدل الآية على أنه لا يجوز الصوم حتى يتخلل الإفطار خلافا لزاعمه ، نعم استدل بها على صحة نية رمضان في النهار ، وتقرير ذلك أن قوله تعالى : (ثُمَّ أَتِمُّوا) إلخ معطوف على قوله : (بَاشِرُوهُنَ) إلى قوله سبحانه : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ) وكلمة (ثُمَ) للتراخي والتعقيب بمهلة ـ واللام ـ في (الصِّيامِ) للعهد على ما هو الأصل ، فيكون مفاد (ثُمَّ أَتِمُّوا) إلخ الأمر ـ بإتمام الصيام ـ المعهود أي الإمساك المدلول عليه بالغاية سواء فسر بإتيانه تاما ، أو بتصييره كذلك متراخيا عن الأمور المذكورة المنقضية بطلوع الفجر تحقيقا لمعنى (ثُمَ) فصارت نية الصوم بعد مضي جزء من الفجر لأن قصد الفعل إنما يلزمنا حين توجه الخطاب ، وتوجهه ـ بالإتمام ـ بعد الفجر لأنه بعد الجزء الذي هو غاية لانقضاء الليل تحقيقا لمعنى التراخي ، والليل لا ينقضي إلا متصلا بجزء من الفجر ، فتكون النية بعد مضي جزء الفجر الذي به انقطع الليل ، وحصل فيه الإمساك المدلول عليه بالغاية ، فإن قيل : لو كان كذلك وجب وجوب النية بعد المضي ، أجيب بأن ترك ذلك بالإجماع ، وبأن إعمال الدليلين ـ ولو بوجه ـ أولى من إهمال أحدهما ، فلو قلنا بوجوب النية كذلك عملا بالآية بطل العمل بخبر «لا صيام لمن لم ينو الصيام من الليل» ولو قلنا باشتراط النية قبله عملا بالخبر بطل العمل بالآية ، فقلنا بالجواز عملا بهما ، فإن قيل : مقتضى الآية ـ على ما ذكر ـ الوجوب وخبر الواحد لا يعارضها ، أجيب بأنها متروكة الظاهر بالإجماع فلم تبق قاطعة ـ فيجوز أن يكون الخبر بيانا لها ـ ولبعض الأصحاب تقرير الاستدلال بوجه آخر ، ولعل ما ذكرناه أقل مئونة فتدبر. وزعم بعض الشافعية أن الآية تدل على وجوب التبييت ، لأن معنى «ثم أتموا» صيروه تاما بعد الانفجار ، وهو يقتضي الشروع فيه قبله ـ وما ذاك إلا بالنية ـ إذ لا وجوب للإمساك قبل ، ولا يخفي ما فيه (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) أي معتكفون فيها ـ والاعتكاف ـ في اللغة الاحتباس واللزوم مطلقا ، ومنه قوله :
فباتت بنات الليل حولي ـ عكفا |
|
عكوف ـ بواك حولهن صريع |
وفي الشرع لبث مخصوص ، والنهي عطف على أول الأوامر ـ والمباشرة فيه كالمباشرة فيه ـ وقد تقدم أن المراد بها الجماع ، إلا أنه لزم من إباحة الجماع إباحة اللمس والقبلة وغيرهما بخلاف النهي فإنه ـ لا يستلزم النهي عن الجماع ـ النهي عنهما ، فهما إما مباحان اتفاقا بأن يكونا بغير شهوة ، وإما حرامان بأن يكونا بها «يبطل الاعتكاف ما لم ينزل» وصحح معظم أصحاب الشافعي البطلان ـ وقيل : المراد من ـ المباشرة ـ ملاقاة البشرتين ففي الآية منع عن