مطلق المباشرة ـ وليس بشيء ـ فقد كانت عائشة رضي الله تعالى عنها ترجل رأس النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو معتكف ، وفي تقييد ـ الاعتكاف بالمساجد ـ دليل على أنه لا يصح إلا في المسجد إذ لو جاز شرعا في غيره لجاز في البيت ـ وهو باطل بالإجماع ـ ويختص بالمسجد الجامع عند الزهري ، وروي عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه مختص بمسجد له إمام ومؤذن راتب ، وقال حذيفة رضي الله تعالى عنه : يختص بالمساجد الثلاثة ، وعن علي كرم الله تعالى وجهه لا يجوز إلا في المسجد الحرام ، وعن ابن المسيب لا يجوز إلا فيه أو في المسجد النبوي ، ومذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه يصح في جميع المساجد مطلقا بناء على عموم اللفظ وعدم اعتبار أن المطلق ينصرف إلى الكامل ، واستدل بالآية على صحة اعتكاف المرأة في غير المسجد بناء على أنها لا تدخل في خطاب الرجال ، وعلى اشتراط الصوم في الاعتكاف لأنه قصر الخطاب على الصائمين ، فلو لم يكن الصوم من شرطه لم يكن لذلك معنى ، وهو المروي عن نافع مولى ابن عمر ، وعائشة رضي الله تعالى عنهم ، وعلى أنه لا يكفي فيه أقل من يوم ـ كما أن الصوم لا يكون كذلك ـ والشافعي رضي الله تعالى عنه لا يشترط يوما ولا صوما ، لما أخرج الدارقطني والحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه» ومثله عن ابن مسعود ، وعن علي كرم الله تعالى وجهه روايتان أخرجهما ابن أبي شيبة من طريقين إحداهما الاشتراط ، وثانيتهما عدمه ، وعلى أن المعتكف إذا خرج من المسجد فباشر خارجا جاز لأنه حصر المنع من المباشرة حال كونه فيه ، وأجيب بأن المعنى (لا تُبَاشِرُوهُنَ) حال ما يقال لكم : إنكم (عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) ومن خرج من المسجد لقضاء الحاجة فاعتكافه باق ، ويؤيده ما روي عن قتادة كان الرجل يعتكف فيخرج إلى امرأته فيباشرها ثم يرجع ـ فنهوا عن ذلك ـ واستدل بها أيضا على أن الوطء يفسد الاعتكاف لأن النهي للتحريم ، وهو في العبادات يوجب الفساد ، وفيه أن المنهي عنه هنا ـ المباشرة حال الاعتكاف ـ وهو ليس من العبادات لا يقال : إذا وقع أمر منهي عنه في العبادة ـ كالجماع في الاعتكاف ـ كانت تلك العبادة منهية باعتبار اشتمالها على المنهي ومقارنتها إياه إذ يقال : فرق بين كون الشيء منهيا عنه باعتباره ما يقارنه ، وبين كون المقارن منهيا في ذلك الشيء والكلام في الأول ، وما نحن فيه من قبيل الثاني (تِلْكَ) أي الأحكام الستة المذكورة المشتملة على إيجاب وتحريم وإباحة (حُدُودُ اللهِ) أي حاجزة بين الحق والباطل (فَلا تَقْرَبُوها) كيلا يداني الباطل والنهي عن القرب من ـ تلك الحدود ـ التي هي الأحكام كناية عن النهي عن قرب الباطل لكون الأول لازما للثاني وهو أبلغ من (فَلا تَعْتَدُوها) [البقرة : ٢٢٩] لأنه نهي عن قرب الباطل بطريق الكناية التي هي أبلغ من الصريح ، وذلك نهي عن الوقوع في الباطل بطريق الصريح ، وعلى هذا لا يشكل «لا تقربوها» في تلك الأحكام مع اشتمالها على ما سمعت ، ولا وقوع «فلا تعتدوها» وفي آية أخرى إذ قد حصل الجمع وصح «لا تقربوها» في الكل ، وقيل : يجوز أن يراد ب (حُدُودُ اللهِ) تعالى محارمه ومناهيه إما لأن الأوامر السابقة تستلزم النواهي لكونها مغياة بالغاية ، وإما لأن المشار إليه قوله سبحانه : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَ) وأمثاله ، وقال أبو مسلم : معنى «لا تقربوها» لا تتعرضوا لها بالتغيير كقوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) [الإنعام : ١٥٢ ، الإسراء : ٣٤] فيشمل جميع الأحكام ـ ولا يخفى ما في الوجهين من التكليف ـ والقول ـ بأن تلك إشارة إلى الأحكام ـ والحد ـ إما بمعنى المنع أو بمعنى الحاجز بين الشيئين ، فعلى الأول يكون المعنى تلك الأحكام ممنوعات الله تعالى عن الغير ليس لغيره أن يحكم بشيء (فَلا تَقْرَبُوها) أي لا تحكموا على أنفسكم أو على عباده من عند أنفسكم بشيء ـ فإن الحكم لله تعالى عز شأنه ـ وعلى الثاني يريد أن تلك الأحكام حدود حاجزة بين الألوهية والعبودية ، فالإله يحكم والعباد تنقاد ، فلا تقربوا الأحكام لئلا تكونوا مشركين بالله تعالى ـ لا يكاد يعرض على ذي لب فيرتضيه ، وهو بعيد بمراحل عن المقصود كما لا يخفى.