(كَذلِكَ) أي مثل ذلك التبيين الواقع في أحكام الصوم (يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ) إما مطلقا أو الآيات الدالة على سائر الأحكام التي شرعها (لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) مخالفة أوامره ونواهيه ، والجملة اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه لتقرير الأحكام السابقة والترغيب إلى امتثالها بأنها شرعت لأجل تقواكم ، ولما ذكر سبحانه الصيام وما فيه عقبه بالنهي عن الأكل الحرام المفضي إلى عدم قبول عبادته من صيامه واعتكافه فقال :
(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) والمراد من ـ الأكل ـ ما يعم الأخذ والاستيلاء ، وعبر به لأنه أهم الحوائج ـ وبه يحصل إتلاف المال غالبا ـ والمعنى لا يأكل بعضكم مال بعض ، فهو على حد (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) [الحجرات : ١١] وليس من تقسيم الجمع على الجمع ، كما في ـ ركبوا دوابهم ـ حتى يكون معناه لا يأكل كل واحد منكم مال نفسه ، بدليل قوله سبحانه : (بَيْنَكُمْ) فإنه ـ بمعنى الواسطة ـ يقتضي أن يكون ما يضاف إليه منقسما إلى طرفين بكون الأكل والمال حال الأكل متوسطا بينهما ـ وذلك ظاهر على المعنى المذكور ـ والظرف متعلق ب (تَأْكُلُوا) كالجار والمجرور بعده ، أو بمحذوف حال من «الأموال» ـ والباء ـ للسببية والمراد من (بِالْباطِلِ) الحرام ، كالسرقة ، والغصب ، وكل ما لم يأذن بأخذه الشرع.
(وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ) عطف على تأكلوا فهو منهي عنه مثله مجزوم بما جزم به وجوز نصبه بأن مضمرة ومثل هذا التركيب وإن كان للنهي عن الجمع إلا أنه لا ينافي أن يكون كل من الأمرين منهيا عنه والإدلاء في الأصل إرسال الحبل في البئر ثم استعير للتوصل إلى الشيء أو الإلقاء ـ والباء ـ صلة الإدلاء وجوز أن تكون سببية والضمير المجرور «للأموال» أي لا تتوصلوا ، أو لا تلقوا بحكومتها والخصومة فيها إلى ـ الحكام ـ وقيل : لا تلقوا بعضها إلى حكام السوء على وجه الرشوة ، وقرأ أبيّ «ولا تدلوا» (لِتَأْكُلُوا) بالتحاكم والرفع إليهم.
(فَرِيقاً) قطعة وجملة (مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ) أي بسبب ما يوجب إثما كشهادة الزور واليمين الفاجرة ، ويحتمل أن تكون ـ الباء ـ للمصاحبة أي متلبسين ـ بالإثم. والجار والمجرور على الأول متعلق «بتأكلوا» وعلى الثاني حال من فاعله وكذلك (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ومفعول العلم محذوف أي ـ تعلمون ـ أنكم مبطلون ، وفيه دلالة على أن من لا يعلم أنه مبطل ، وحكم له الحاكم بأخذ مال فإنه يجوز له أخذه ، أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير مرسلا أن عبدان بن أشوع الحضرمي ، وامرؤ القيس بن عابس اختصما في أرض ولم تكن بينة فحكم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بأن يحلف امرؤ القيس فهم به فقرأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) [آل عمران : ٧٧] فارتدع عن اليمين وسلم الأرض فنزلت.
واستدل بها على أن حكم القاضي لا ينفذ باطنا فلا يحل به الأخذ في الواقع ، وإلى ذلك ذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه وأبو يوسف ومحمد ويؤيده ما أخرجه البخاري ومسلم عن أم سلمة زوج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذنه فإنما أقطع له قطعة من النار».
وذهب الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه إلى أن الحاكم إذا حكم ببينة بعقد أو فسخ عقد مما يصح أن يبتدأ فهو نافذ ظاهرا وباطنا ويكون كعقد عقداه بينهما ، وإن كان الشهود زورا كما روي أن رجلا خطب امرأة هو دونها فأبت فادعى عند علي كرم الله تعالى وجهه أنه تزوجها وأقام شاهدين فقالت المرأة : لم أتزوجه وطلبت عقد النكاح فقال علي كرم الله تعالى وجهه : قد زوجك الشاهدان ، وذهب فيمن ادعى حقا في يدي رجل وأقام بينة تقتضي أنه له