(فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) لا ينكره الشرع كالتطيب والتزين وترك الحداد والتعرض للخطاب أو في ترك منعهنّ من الخروج ، أو قطع النفقة عنهنّ ، فلا نص في الآية على أنه لم يكن يجب عليهنّ ملازمة مسكن الزوج والحداد عليه ، وإنما كنّ مخيرات بين الملازمة وأخذ النفقة ، وبين الخروج وتركها (وَاللهُ عَزِيزٌ) غالب على أمره ينتقم ممن خالف أمره في ـ الإيصاء ـ وإنفاذ «الوصية» وغير ذلك (حَكِيمٌ) يراعي في أحكامه مصالح عباده فينبغي أن يمتثل أمره ونهيه.
(وَلِلْمُطَلَّقاتِ) سواء كن مدخولا بهن أو لا (مَتاعٌ) أي مطلق المتعة الشاملة للواجبة والمستحبة وأوجبها سعيد بن جبير وأبو العالية والزهري للكل ، وقيل : المراد بالمتاع نفقة العدة ، ويجوز أن يكون اللام للعهد أي المطلقات المذكورات في الآية السابقة وهن غير الممسوسات وغير المفروض لهن ، والتكرير للتأكيد والتصريح بما هو أظهر في الوجوب وهذا هو الأوفق بمذهبنا ، ويؤيده ما أخرجه ابن جرير عن ابن زيد قال : لما نزل قوله تعالى : (مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) [البقرة : ٢٣٦] قال رجل : إن أحسنت فعلت وإن لم أرد ذلك لم أفعل فأنزل الله تعالى هذه الآية فلا حاجة حينئذ إلى القول بأن تلك الآية مخصصة بمفهومها منطوق هذه الآية المعممة على مذهب من يرى ذلك ولا إلى القول بنسخ هذه كما ذهب إليه ابن المسيب وهو أحد قولي الإمامية (بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) أي من الكفر والمعاصي (كَذلِكَ) أي مثل ذلك البيان الواضح للأحكام السابقة (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) الدالة على ما تحتاجون إليه معاشا ومعادا (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي لكي تكمل عقولكم أو لكي تصرفوا عقولكم إليها أو لكي تفهموا ما أريد منها (أَلَمْ تَرَ) هذه الكلمة قد تذكر لمن تقدم علمه فتكون للتعجب والتقرير والتذكير لمن علم بما يأتي كالأخبار وأهل التواريخ ، وقد تذكر لمن لا يكون كذلك فتكون لتعريفه وتعجيبه ، وقد اشتهرت في ذلك حتى أجريت مجرى المثل في هذا الباب بأن شبه حال من «لم ير» الشيء بحال من رآه في أنه لا ينبغي أن يخفى عليه وأنه ينبغي أن يتعجب منه ثم أجري الكلام معه كما يجري مع من رأى قصدا إلى المبالغة في شهرته وعراقته في التعجب ، والرؤية إما بمعنى الابصار مجازا عن النظر ، وفائدة التجوز الحث على الاعتبار لأن النظر اختياري دون الإدراك الذي بعده وإما بمعنى الإدراك القلبي متضمنا معنى الوصول والانتهاء ولهذا تعدت بإلى في قوله تعالى : (إِلَى الَّذِينَ) كما قاله غير واحد ، وقال الراغب : إن الفعل مما يتعدى بنفسه لكن لما استعير لمعنى ـ ألم تنظر ـ عدي تعديته بإلى وفائدة استفادته أن النظر قد يتعدى عن الرؤية فإذا أريد الحث على نظر ناتج لا محالة لها استعيرت له وقلما استعمل ذلك في غير التقرير فلا يقال رأيت إلى كذا انتهى. وقد يتعدى اللفظ على هذا المعنى بنفسه وقل من نبه عليه كقول امرئ القيس :
ألم ترياني كلما جئت طارقا |
|
وجدت بها طيبا ولم تتطيب |
والمراد بالموصول أهل قرية يقال لها داوردان قرب واسط (خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) فارين من الطاعون أو من الجهاد حيث دعوا إليه (وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ) وكانوا فوق عشرة آلاف على ما استظهره الأكثر بناء على أنه لا يقال ـ عشرة ألوف لا تسعة ألوف ـ وهكذا وإنما يقال آلاف ، فقول عطاء الخراساني : إنهم كانوا ثلاثة آلاف ، وابن عباس في إحدى الروايات عنه أنهم أربعة آلاف ، ومقاتل والكلبي أنهم ثمانية آلاف ، وأبي صالح أنهم تسعة آلاف ، وأبي رءوف أنهم عشرة آلاف لا يساعده هذا الاستعمال ، والقائلون بالفوقية اختلفوا فقيل : كانوا بضعة وثلاثين ألفا ، وحكي ذلك عن السدي وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم أربعون ألفا ، وقال عطاء بن أبي رباح إنهم سبعون ألفا ولا أرى لهذا الخلاف ثمرة بعد القول بالكثرة وإلى ذلك يميل كلام الضحاك ، وحكي عن ابن زيد أن المراد