وفي اختيار (واسِعٌ) و (عَلِيمٌ) في الإخبار عنه تعالى هنا من حسن المناسبة لبسطة الجسم وكثرة العلم ما تهتش له الخواطر لا سيما على ما يتبادر من بسطة الجسم ، وقدم الوصف الأول مع أن ما يناسبه ظاهرا مؤخر لأن له مناسبة معنى لأول الإخبار إذ الاصطفاء من سعة الفضل أيضا ، ولأن عليم أوفق بالفواصل وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة.
(وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ) عطف على مثله مما تقدم وكان توسيط ما تقدم بينهما للإشعار بعدم اتصال أحدهما بالآخر وتخلل كلام من جهة المخاطبين متفرع على السابق مستتبع للأحق ، وروايات القصاص متظافرة على أنهم قالوا لنبيهم ، ما آية ملكه واصطفائه علينا؟ فقال : (إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ) ولما لم يكن قولهم ذلك مذكورا ليقع هذا جوابا له صراحة أعاد الفاعل ليغاير ما علم صراحة كونه جوابا ، وإنما لم يجر ذلك المجرى بأن يذكر مقولهم ويكون هذا جوابا له ، ويكتفي بالإضمار كما اكتفى به أولا للإيماء إلى أن ذلك السؤال للنبي بعد تصديقهم له وبيانه لهم ما استفهموا عنه مما لا ينبغي أن يكون حتى يجاب لأن له شبها تاما بالتعنت حينئذ وإن عد من باب السؤال لتقوية العلم ، وهذا بناء على أن القوم كانوا مؤمنين ، وفي بعض الروايات ما يقتضي أنهم لم يكونوا آمنوا به حينئذ فعن السدي أن هذا النبي كان قد كفله شيخ من علماء بني إسرائيل فلما أراد الله تعالى أن يبعثه نبيا أتاه جبريل وهو غلام نائم إلى جنب الشيخ ، وكان لا يأمن عليه غيره فدعاه بلحن الشيخ فقام فزعا إلى الشيخ فقال : يا أبتاه دعوتني؟ فكره الشيخ أن يقول لا فيفزع فقال يا بني ارجع فنم فرجع فنام فدعاه الثانية فأتاه الغلام أيضا فقال : دعوتني؟ فقال : ارجع فنم فإن دعوتك الثالثة فلا تجبني ، فلما كانت الثالثة ظهر له جبريل فقال له : اذهب إلى قومك فبلغهم رسالة ربك فإن الله تعالى قد بعثك فيهم نبيا فلما أتاهم كذبوه ، وقالوا : استعجلت بالنبوة ولم يأن لك وقالوا : إن كنت صادقا فابعث لنا ملكا ثم جرى ما جرى فقال : إن الله قد بعث لكم (طالُوتَ مَلِكاً) فقالوا : ما كنت قط أكذب منك الساعة واعترضوا وأجيبوا ثم ـ قالوا إن كنت صادقا فأتنا بآية ـ إن هذا ملك فقال : ما قص الله تعالى ، وحينئذ لا يبعد أن يكون الاستفهام المصرح به في الآية وكذا الطلب المرموز إليه فيها صادرا عن إنكار وعدم إيقان ، ووجه ترك ذكر سؤالهم حينئذ إن كان الإشارة إلى أن من شأن الأنبياء الإتيان بالآيات وإن لم تطلب منهم جلبا للشارد وتقيدا للوارد «وليزداد الذين آمنوا هدي» والتابوت الصندوق وهو فعلوت من التوب وهو الرجوع لما أنه لا يزال يرجع إليه ما يخرج منه وصاحبه يرجع إليه فيما يحتاجه من مودعاته فتاؤه مزيدة كتاء ملكوت ، وأصله توبوت فقلبت الواو ألفا وليس بفاعول من التبت لقلة ما كان فاؤه ولامه من جنس واحد كسلس وقلق ، وقرئ تابوه بالهاء ، وهي لغة الأنصار والأولى لغة قريش ، وهي التي أمر عثمان رضي الله تعالى عنه بكتابتها في الإمام حين ترافع لديه في ذلك زيد وأبان رضي الله تعالى عنهما ووزنه حينئذ ـ على ما اختاره الزمخشري ـ فاعول لأن شبهة الاشتقاق لا تعارض زيادة الهاء وعدم النظير ، وأما جعل الهاء بدلا من التاء لاجتماعهما في الهمس ـ وأنهما من حروف الزيادة ـ ضعيف لأن الإبدال في غير تاء التأنيث ليس بثبت ، وذهب الجوهري إلى أن التاء فيه للتأنيث وأصله عنده تابوة مثل ترقوة فلما سكنت الواو انقلبت هاء التأنيث تاء ، والمراد به صندوق كان يتبرك به بنو إسرائيل فذهب منهم ، واختلف في تحقيق ذلك فقال : أرباب الأخبار : هو صندوق أنزله الله تعالى على آدم عليهالسلام فيه تماثيل الأنبياء جميعهم. وكان من عود الشمشاذ نحوا من ثلاثة أذرع في ذراعين ، ولم يزل ينتقل من كريم إلى كريم حتى وصل إلى يعقوب ثم إلى بنيه ـ ثم ، وثم ـ إلى أن فسد بنو إسرائيل وعصوا بعد موسى عليهالسلام فسلط الله تعالى عليهم العمالقة فأخذوه منهم فجعلوه في موضع البول والغائط فلما أراد الله تعالى أن يملك طالوت سلط عليهم البلاء حتى أن كل من أحدث عنده ابتلي بالبواسير وهلكت من بلادهم خمس مدائن