وهذا كثيرا ما يفعله العطشان المشرف على الهلاك ، وقيل : الكلام على حذف مضاف أي (فَمَنْ شَرِبَ) من مائة مطلقا (فَلَيْسَ مِنِّي) أي من أشياعي ، أو ليس بمتصل بي ومتحد معي (فَمَنْ) اتصالية وهي غير التبعيضية عند بعض وكأنها بيانية عنده وعينها عند آخرين. (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) أي من لم يذقه من طعم الشيء إذا ذاقه مأكولا كان أو مشروبا حكاه الأزهري عن الليث ، وذكره الجوهري أن الطعم ما يؤديه الذوق وليس هو نفس الذوق فمن فسره به على هذا فقد توسع وعلى التقديرين استعمال طعم الماء بمعنى ذاق طعمه مستفيض لا يعاب استعماله لدى العرب العرباء ويشهد له قوله :
وإن شئت حرمت النساء سواكم |
|
وإن شئت لم ـ أطعم ـ نقاخا ولا بردا |
وأما استعماله بمعنى شربه واتخذه طعاما فقبيح إلا أن يقتضيه المقام كما في حديث زمزم «طعام طعم وشفاء سقم» فإنه تنبيه على أنها تغذي بخلاف سائر المياه ، ولا يخدش هذا ما حكي أن خالد بن عبد الله القسري قال على منبر الكوفة وقد خرج عليه المغيرة بن سعيد : أطعموني ماء فعابت عليه العرب ذلك وهجوه به وحملوه على شدة جزعه ، وقيل فيه :
بل المنابر من خوف ومن وهل |
|
واستطعم ـ الماء ـ لما جد في الهرب |
وألحن الناس كل الناس قاطبة |
|
وكان يولع بالتشديق بالخطب |
لأن ذلك إنما عيب عليه لأنه صدر عن جزع فكان مظنة الوهم وعدم قصد المعنى الصحيح ، وإلا فوقوع مثله في كلامهم مما لا ينبغي أن يشك فيه ، وإنما علم طالوت أن من شرب عصاه ومن لم يطعم أطاعه بواسطة الوحي إلى نبي بني إسرائيل وإنما لم يخبرهم النبي نفسه بذلك ألقاه إلى طالوت فأخبر به كأنه من تلقاء نفسه ليكون له وقع في قلوبهم ، وجوز أن يكون ذلك بواسطة وحي إليه بناء على أنه نبئ بعد أن ملك وهو قول لا ثبت له ، والقول بأنه يحتمل أن يكون بالفراسة والإلهام بعيد (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) استثناء من الموصول الأول أو ضميره في الخبر فإن فسر الشرب بالكروع كان الاستثناء منقطعا وإلا كان متصلا ، وفائدة تقديم الجملة الثانية الإيذان بأنها من تتمة الأولى وأن الغرض منها تأكيدها وتتميمها نهيا عن الكروع من كل وجه ، وإفادة أن المعترف ليس بذائق حكما فيؤكد ترخيص الاغتراف ولو أخرت لم تفد هذه الفوائد ولا ختل النظم لدلالة الاستثناء إذ ذاك على أن المغترف متحد معه ، ودلالة الجملة الثانية بمفهومها على أنه غير متحد معه ولا يصح في الاستثناء أن يكون من أحد الضميرين الراجعين إلى الموصولين في الصلة للفصل بين أجزاء الصلة حينئذ بالخبر وأداء المعنى في الأول إلى أن المجتزئ في الشرب بغرفة واحدة ليس متصلا به متحدا معه لأن التقدير ـ والذين شربوا كلهم إلا المغترف ليس مني ـ ولا يصح أيضا أن يكون من الموصول الثاني أو الضمير الراجع إليه في الخبر خلافا للبعض إذ لا فرق لأدائه إلى أن المجتزئ المذكور مخرج من حكم الاتحاد معه لأن التقدير ـ والذين لم يذوقوه فإنّهم كلهم إلا المغترف منهم متصلون بي متحدون معي ـ وليس بالمراد أصلا ، والغرفة ما يغرف ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأهل المدينة ـ غرفة ـ بفتح الغين على أنها مصدر ، وقيل : الغرفة والغرفة مصدران والضم والفتح لغتان ، والباء متعلقة باغترف أو بغرفة في قول ، أو بمحذوف وقع صفة لها (فَشَرِبُوا مِنْهُ) عطف على مقدر يقتضيه المقام أي فابتلوا به فشربوا ، والمراد إما كرعوا ـ وهو المتبادر ـ وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أو أفرطوا في الشرب (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) لم يكرعوا أو لم يفرطوا في الشرب بل اقتصروا على الغرفة باليد وكانت تكفيهم لشربهم وإداوتهم كما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وأخرج عنه أيضا أن من شرب لم يزدد إلا عطشا ، وفي رواية إن الذين شربوا اسودت شفاههم وغلبهم العطش وكان ذلك من قبيل المعجزة