وشروعا في الدعوة المشار إليها بقول مجمل ، فإن الجملة الاسمية المؤكدة بأن للإشارة إلى استكمال القوة النظرية بالاعتقاد الحق الذي غايته التوحيد ، وقوله تعالى : (فَاعْبُدُوهُ) إشارة إلى استكمال القوة العملية فإنه ملازمة الطاعة التي هي الإتيان بالأوامر والانتهاء عن المناهي ، وتعقيب هذين الأمرين بقوله سبحانه : (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) تقرير لما سبق ببيان أن الجمع بين الأمرين الاعتقاد الحق ، والعمل الصالح هو الطريق المشهود له بالاستقامة ، ومعنى قراءة الفتح على ما ذكر ـ لأن الله ـ ربي وربكم فاعبدوه ـ فهو كقوله تعالى : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) [قريش : ١] إلخ ، والإشارة إما إلى مجموع الأمرين ، أو إلى الأمر الثاني المعلول للأمر الأول ، والتنوين إما للتعظيم أو للتبعيض ، وجملة (هذا) إلخ على ما قيل : استئناف لبيان المقتضى للدعوة.
هذا «والإشارة في هذه الآيات ظاهرة كالعبارة» سوى أن تطبيق ما في الآفاق على ما في الأنفس يحتاج إلى بيان فنقول : قال الله سبحانه : (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) أي ملائكة القوى الروحانية لمريم النفس الطاهرة الزكية (إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ) لكمال استعدادك ووفور قابليتك (وَطَهَّرَكِ) عن الرذائل والأخلاق الردية (وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ) النفوس الشهوانية المتدرعة بجلباب الأفعال الذميمة (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ) أي دوامي على الطاعة له بالائتمار بما أمر والانزجار عما نهى (وَاسْجُدِي) في مساجد الذل (وَارْكَعِي) في محاريب الخضوع مع الخاضعين فإن في ذلك إقامة مراسم العبودية وأداء حقوق الربوبية ، ولله تعالى در من قال :
ويحسن إظهار التجلد للعدا |
|
ويقبح إلا العجز عند الحبائب |
(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) أي من أخبار غيب وجودك (نُوحِيهِ إِلَيْكَ) يا نبي الروح (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) أي لدى القوى الروحانية والنفسانية ، والمراد ما كنت ملتفتا إليهم بل كنت في شغل شاغل عنهم (إِذْ يُلْقُونَ) أقلام استعداداتهم التي يكتبون بها صحف أحوالهم وتوراة أطوارهم ويطرحونها في بحر التدبير (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ) ويدبر (مَرْيَمَ) النفس بحسب رأيه ومقتضى طبعه (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) في مقام الصدر الذي هو محل اختصام القوى في طلب الرئاسة قبل الرياضة وفي حالها (إِذْ قالَتِ) ملائكة القوى الروحانية حين غلبت (يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ) بمقتضى التوجه إليه (بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) جامعة لحروف الأكوان وهو القلب المحيط بالعوالم (اسْمُهُ الْمَسِيحُ) لأنه يمسحك بالنور ، أو لأنه مسح به (وَجِيهاً فِي الدُّنْيا) لتدبيره أمر المعاش فيطيعه أنس القوى الظاهرة وجن القوى الباطنة ، ووجيها في الآخرة لقيامه بتدبير المعاد فيطيعه ملكوت سماء الأرواح ، أو شريفا مرفوعا في الدنيا وهي عبارة عن تجلي الأفعال ، وفي الآخرة وهي عبارة عن تجلي الأسماء (وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) أي المعدودين من جملة مقربي الحضرة القابلين لتجلي الذات ، وفي الخبر «ما وسعتني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن» (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ) بما يرشدهم في مهد البدن وقت تغذيه بلبان السلوك إلى ملك الملوك (وَكَهْلاً) بالغا طور شيخ الروح وواصلا وسط الطريق (قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ) مثل هذا (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) وهو تعجب من ولادتها ذلك من غير تربية معلم بشري لما أن العادة جرت بأن الوصول إلى المقامات العلية إنما هو بواسطة شيخ مرشد يعرف الطريق ويدفع الآفات ، وقد شاع أن الإنسان متى سلك بنفسه ضل أو لم يفز بكثير ، ومن كلامهم الشجرة التي تنبت بنفسها لا تثمر (قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) فله أن يصطفي من شاء من غير تربية مرب ولا إرشاد مرشد بل بمجرد الجذبة الالهية ، وهذا شأن المرادين وبعض المريدين :
رب شخص تقوده الأقدار |
|
للمعالي وما لذاك اختيار |
غافل والسعادة احتضنته |
|
وهو عنها مستوحش نفار |