وحكمه ، أو فيما غاب عنكم ولم تطلعوا على كنهه ، والظرف متعلق فيما تعلق به الجار في قوله سبحانه : (كَمَثَلِ آدَمَ) أي كصفته وحاله العجيبة التي لا يرتاب فيها مرتاب (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) جملة ابتدائية لا محل لها من الإعراب مبينة لوجه الشبه باعتبار أن في كل الخروج عن العادة وعدم استكمال الطرفين ، ويحتمل أنه جيء بها لبيان أن المشبه به أغرب وأخرق للعادة فيكون ذلك أقطع للخصم وأحسم لمادة شبهته ، و (مِنْ) لابتداء الغاية متعلقة بما عندها ، والضمير المنصوب ـ لآدم ـ والمعنى ابتدأ خلق قالبه من هذا الجنس (ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي صر بشرا فصار ، فالتراخي على هذا زماني إذ بين إنشائه ، مما ذكر وإيجاد الروح فيه وتصييره لحما ودما زمان طويل ، فقد روي أنه بعد أن خلق قالبه بقي ملقى على باب الجنة أربعين سنة لم تنفخ فيه الروح ؛ والتعبير بالمضارع مع أن المقام مقام المضي لتصوير ذلك الأمر الكامل بصورة المشاهد الذي يقع الآن إيذانا بأنه من الأمور المستغربة العجيبة الشأن ، وجوز أن يكون التعبير بذلك لما أن الكون مستقبل بالنظر إلى ما قبله ، وذهب كثير من المحققين إلى أن (ثُمَ) للتراخي في الأخبار لا في المخبر به ، وحملوا الكلام على ظاهره ، ولا يضر تقدم القول على الخلق في هذا الترتيب والتراخي ـ كما لا يخفى ، والضمير المجرور عائد على ما عاد عليه الضمير المنصوب ، والقول ـ بأنه عائد على عيسى ـ ليس بشيء لما فيه من التفكيك الذي لا داعي إليه ولا قرينة تدل عليه ، قيل : وفي الآية دلالة على صحة النظر والاستدلال لأنه سبحانه احتج على النصارى وأثبت جواز خلق عيسى عليهالسلام من غير أب يخلق آدم عليهالسلام من غير أب ولا أم ، ثم إن الظاهر أن عيسى عليهالسلام خلقه الله سبحانه من نطفة مريم عليهاالسلام بجعلها قابلة لذلك ومستعدة له كما أشرنا إليه فيما تقدم.
والقول ـ بأنه خلق من الهواء كما خلق آدم من التراب ـ مما لا مستند له من عقل ولا نقل «ونفخنا فيه من روحنا» (١) لا يدل عليه بوجه أصلا (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) خبر لمحذوف أي هو الحق ، وهو راجع إلى البيان ، والقصص المذكور سابقا ، والجار والمجرور حال من الضمير في الخبر ، وجوز أن يكون (الْحَقُ) مبتدأ ، و (مِنْ رَبِّكَ) خبره ، ورجح الأول بأن المقصود الدلالة على كون عيسى مخلوقا كآدم عليهماالسلام هو (الْحَقُ) لا ما يزعمه النصارى ، وتطبيق كونهما مبتدأ وخبرا على هذا المعنى لا يتأتى إلا بتكلف إرادة أن كل حق ، أو جنسه من الله تعالى ، ومن جملته هذا الشان ، أو حمل اللام على العهد بإرادة (الْحَقُ) المذكور ، ولا يخفى ما في التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله تعالى عليه وسلم من اللطافة الظاهرة (فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) خطاب له صلى الله تعالى عليه وسلم ، ولا يضر فيه استحالة وقوع الامتراء منه عليه الصلاة والسلام كما في قوله تعالى : «فلا تكونن من المشركين» (٢) بل قد ذكروا في هذا الأسلوب فائدتين :
«إحداهما» أنه صلى الله تعالى عليه وسلم إذا سمع مثل هذا الخطاب تحركت منه الأريحية فيزداد في الثبات على اليقين نورا على نور «وثانيتهما» أن السامع يتنبه بهذا الخطاب على أمر عظيم فينزع وينزجر عما يورث الامتراء لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم مع جلالته التي لا تصل إليها الأماني إذا خوطب بمثله فما يظن بغيره ففي ذلك زيادة ثبات له صلوات الله تعالى وسلامه عليه ولطف بغيره ، وجوز أن يكون خطابا لكل من يقف عليه ويصلح للخطاب (فَمَنْ حَاجَّكَ) أي جادلك وخاصمك من وفد نصارى نجران إذ هم المتصدون لذلك (فِيهِ) أي في شأن عيسى
__________________
(١) كذا في الأصل ، والقراءة في مصاحفنا (فَنَفَخْنا ...)
(٢) كذا في الأصل ، والقراءة في مصاحفنا (وَلا تَكُونَنَّ ...)