من مزيد اللطف في استنزالهم فإن النفس مجبولة على الحرص على ما منعت منه ، ووجه النهي الضمني إلى النكاح المترقب مع أن سبب النزول هو النكاح المحقق على ما فهمه البعض من الأخبار ، ودل عليه ما أخرجه البخاري عن عائشة أن رجلا كانت له يتيمة فنكحها وكان لها عزق فكان يمسكها عليه ولم يكن لها من نفسه شيء فأنزل الله تعالى (وَإِنْ خِفْتُمْ) إلخ لما فيه من المسارعة إلى دفع الشر قبل وقوعه فرب واقع لا يرفع ، والمبالغة في بيان حال النكاح المحقق فإن محظورية المترقب حيث كان للجور المترقب فيه فمحظورية المحقق مع تحقق الجور فيه أولى ، وقرأ ابن أبي عبلة ـ من طاب ـ وفي بعض المصاحف ـ كما في الدر المنثور ـ ما طيب لكم بالياء ، وفي الآية على هذا التفسير دليل الجواز نكاح اليتيمة وهي الصغيرة إذ يقتضي جوازه إلا عند خوف الجور.
وقد بسط الكلام في كتب الفقه على ولي النكاح ، ومذهب الإمام مالك أن اليتيمة الصغيرة لا تزوج إذ لا إذن لها وعنده خلاف في تزويج الوصي لها إذا جعل له الأب الإجبار أو فهم عنه ذلك ، والمشهور أن له ذلك فيحمل اليتامى في الآية على الحديثات العهد بالبلوغ ، واسم اليتيم كما أشرنا إليه فيما مر (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) منصوبة على الحال من فاعل (طابَ) المستتر ، أو من مرجعه ، وجوز العلامة كونها حالا من النساء على تقدير جعل (مِنَ) بيانية ، وذهب أبو البقاء إلى كونها بدلا من (ما) وإلى الحالية ذهب البصريون وهو المذهب المختار ، والكوفيون لم يجوزوا ذلك لأنها معارف عندهم ، وأوجبوا في هذا المقام ما ذهب إليه أبو البقاء ، وهي ممنوعة من الصرف على الصحيح ، وجوز الفراء صرفها ، والمذاهب المنقولة في علة منع صرفها أربعة : أحدها قول سيبويه والخليل وأبي عمرو : إنه العدل والوصف ، وأورد عليه أن الوصفية في أسماء العدد عارضة وهي لا تمنع الصرف ، وأجيب بأنها وإن عرضت في أصلها فهي نقلت عنها بعد ملاحظة الوصف العارض فكان أصليا في هذه دون أصلها ولا يخلو عن نظر ، والثاني قول الفراء : إنها منعت للعدل والتعريف بنية الألف واللام ولذا لم تجز إضافتها ولا دخول (١) أل عليها ، والثالث ما نقل عن الزجاج أنها معدولة عن اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة ، فعدلت عن ألفاظ العدد وعن المؤنث إلى المذكر ففيها عدلان وهما سببان ، والرابع ما نقله أبو الحسن عن بعض النحويين أن العلة المانعة من الصرف تكرار العدل فيه لأن مثنى مثلا عدلت عن لفظ اثنين ومعناه لأنها لا تستعمل في موضع تستعمل فيه إذ لا تلي العوامل وإنما تقع بعد جمع إما خبرا ، أو حالا ، أو وصفا وشذ أن تلي العوامل وأن تضاف ، وزاد السفاقسي في علة المنع خامسا وهو العدل من غير جهة العدل لأن باب العدل أن يكون في المعارف وهذا عدل في النكرات ، وسادسا وهو العدل والجمع لأنه يقتضي التكرار فصار في معنى الجمع ، وقال : زاد هذين ابن الصائغ في شرح الجمل ، وجاء آحاد وموحد ، وثناء ومثنى وثلاث ومثلث ، ورباع ومربع ، ولم يسمع فيما زاد على ذلك ـ كما قال أبو عبيدة ـ إلا في قول الكميت :
ولم يستر يثوك حتى رميت |
|
فوق الرجال خصالا عشارا |
من هنا أعابوا (٢) على المتنبي قوله :
أحاد أم سداس في أحاد |
|
لييلتنا المنوطة بالتناد |
ومن الناس من جوز خماس ومخمس إلى آخر العقد قياسا ، وليس بشيء ، واختير التكرار ، والعطف بالواو لتفهم الآية أن لكل واحد من المخاطبين أن يختار من هذه الأعداد المذكورة أي عدد شاء إذ هو المقصود لا أن بعضها
__________________
(١) ودعوى الزمخشري دخولها عليها لا دليل لها وكان اللائق الاستشهاد على ذلك ا ه منه.
(٢) كذا بخطه.