مخالف هذا الإجماع من أهل البدعة فلا اعتبار بمخالفته ، فالحق الذي لا محيص عنه أنه يحرم الزيادة على الأربع ـ وبه قال الإمامية ـ ورووا عن الصادق رضي الله تعالى عنه لا يحل لماء الرجل أن يجري في أكثر من أربعة أرحام ، وشاع عنهم خلاف ذلك ، ولعله قول شاذ عندهم.
ثم إن مشروعية نكاح الأربع خاصة بالأحرار والعبيد غير داخلين في هذا الخطاب لأنه إنما يتناول إنسانا متى طابت له امرأة قدر على نكاحها والعبد ليس كذلك لأنه لا يجوز نكاحه إلا بإذن مولاه لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : «أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر» ولأن في تنفيذ نكاحه تعييبا له إذ النكاح عيب فيه فلا يملكه بدون إذن المولى ، وأيضا قوله تعالى بعد : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) لا يمكن أن يدخل فيه العبيد لعدم الملك فحيث لم يدخلوا في هذا الخطاب لم يدخلوا في الخطاب الأول لأن هذه الخطابات وردت متتالية على نسق واحد فبعيد أن يدخل في الخطاب السابق ما لا يدخل في اللاحق وكذا لا يمكن دخولهم في قوله تعالى : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) لأن العبد لا يأكل فيكون لسيده ، وخالف في ذلك الإمام مالك فأدخل العبيد في الخطاب ، وجوز لهم أن ينكحوا أربعا كالأحرار ولا يتوقف نكاحهم على الإذن لأنهم يملكون الطلاق فيملكون النكاح ، ومن الفقهاء من ادعى أن ظاهر الآية يتناولهم إلا أنه خصص هذا العموم بالقياس لأن الرق له تأثير في نقصان حقوق النكاح كالطلاق والعدة ، ولما كان العدد من حقوق النكاح وجب أن يجعل للعبد نصف ما للحر فيه أيضا ، واختلفوا في الأمر بالنكاح فقيل للإباحة ولا يلغو «طاب» إذا كان بمعنى خل لأنه يصير المعنى أبيح لكم ما أبيح هنا لأن مناط الفائدة القيد وهو العدد المذكور ، وقيل : للوجوب أي الاقتصار على هذا العدد لا وجوب أصل النكاح فقد قال الإمام النوو : لا يعلم أحد أوجب النكاح إلا داود ومن وافقه من أهل الظاهر ، ورواية عن أحمد فإنهم قالوا : يلزمه إذا خاف العنت أن يتزوج أو يتسرى قالوا : وإنما يلزمه في العمر مرة واحدة ولم يشرط بعضهم خوف العنت ، وقال أهل الظاهر : إنما يلزمه التزوج فقط ولا يلزمه الوطء ، واختلف العلماء في الأفضل من النكاح وتركه.
وذكر الإمام النووي أن الناس في ذلك أربعة أقسام : قسم تتوق إليه نفسه ويجد المؤن فيستحب له النكاح ، وقسم لا تتوق ولا يجد المؤن فيكره له ، وقسم تتوق ولا يجد المؤن فيكره له أيضا ، وهذا مأمور بالصوم لدفع التوقان ، وقسم يجد المؤن ولا تتوق نفسه ، فمذهب الشافعي. وجمهور الشافعية أن ترك النكاح لهذا والتخلي للتحلي بالعبادة أفضل ، ولا يقال النكاح مكروه بل تركه أفضل ، ومذهب أبي حنيفة وبعض أصحاب مالك والشافعي أن النكاح له أفضل انتهى المراد منه ، وأنت تعلم أن المذكور في كتب ساداتنا الحنفية متونا وشروحا مخالف لما ذكره هذا الإمام في تحقيق مذهب الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه ، ففي تنوير الأبصار وشرحه الدر المختار في كتاب النكاح ما نصه : ويكون واجبا عند التوقان فإن تيقن الزنا إلا به فرض كما في النهاية وهذا إن ملك المهر والنفقة وإلا فلا إثم بتركه كما في البدائع ، ويكون سنة مؤكدة في الأصح فيأثم بتركه ويثاب إن نوى تحصينا وولدا حال الاعتدال أي القدرة على وطء ومهر ونفقة.
ورجح في النهر وجوبه للمواظبة عليه ، والإنكار على من رغب عنه ، ومكروها لخوف الجور فإن تيقنه حرم انتهى ، لكن في دليل الوجوب على ما ذكره صاحب النهر مقالا للمخالفين وتمام الكلام في محله ، هذا وقد قيل : في تفسير الآية الكريمة أن المراد من (النِّساءِ) اليتامى أيضا ، وأن المعنى (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا) في اليتامى المرباة في حجوركم (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ) من يتامى قراباتكم ، وإلى هذا ذهب الجبائي وهو كما ترى ، وقيل : إنه لما نزلت الآية في اليتامى وما في أكل أموالهم من الحوب الكبير أخذ الأولياء يتحرجون من ولايتهم خوفا من