وبين الدرجة والدرجات ، وفي هذا ـ رغب الراغب ، واستطيبه الطيبي ـ على أن المراد بالتفضيل الأول ما خولهم الله تعالى عاجلا في الدنيا من الغنيمة والظفر والذكر الجميل الحقيقي بكونه درجة واحدة ، وبالتفضيل الثاني ما ادخره سبحانه لهم من الدرجات العالية والمنازل الرفيعة المتعالية عن الحصر كما ينبئ عنه تقديم الأول وتأخير الثاني وتوسيط الوعد بالجنة بينهما ، كأنه قيل : فضلهم عليهم في الدنيا درجة واحدة ، وفي الأخرى درجات لا تحصى ، وقد وسط بينهما في الذكر ما هو متوسط بينهما في الوجود أعني الوعد بالجنة توضيحا لحالهما ومسارعة إلى تسلية المفضول كذا قرره الفاضل مولانا شيخ الإسلام ، وقيل : المراد من التفضيل الأول رضوان الله تعالى ونعيمه الروحاني ، ومن التفضيل الثاني نعيم الجنة المحسوس ، وفيه أن عطف المغفرة والرحمة يبعد هذا التخصيص ، وقيل : المراد من المجاهدين الأولين من جاهد الكفار ، ومن المجاهدين الآخرين من جاهد نفسه ، وزيد لهم في الأجر لمزيد فضلهم كما يدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام : «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» وفيه أن السياق وسبب النزول يأبيان ذلك ، والحديث الذي ذكره لا أصل له ، كما قال المحدثون.
وقيل المراد من (الْقاعِدِينَ) في الأول الأضراء ، وفي الثاني غيرهم كما قال ابن جريج ، وأخرجه عنه ابن جرير ، وفيه من تفكيك النظم ما لا يخفى.
بقي أن الآية لا تدل نصا على حكم أولي الضرر بناء على التفسير المقبول عندنا ، نعم في بعض الأحاديث ما يؤذن بمساواتهم للمجاهدين ، فقد صح من حديث أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما رجع من غزوة تبوك فدنا من المدينة قال : «إن في المدينة لأقواما ما سرتم من سير ولا قطعتم من واد إلا كانوا معكم فيه قالوا : يا رسول الله وهم بالمدينة؟ قال : نعم وهم بالمدينة حبسهم العذر» وعليه دلالة مفهوم الصفة والاستثناء في (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) ، وعن الزجاج أنه قال : إلا أولو الضرر فإنهم يساوون المجاهدين ، وعن بعضهم إن هذه المساواة مشروطة بشريطة أخرى غير الضرر قد ذكرت في قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى) إلى قوله سبحانه : (إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) [التوبة : ٩١] والذي يشهد له النقل والعقل أن الأضراء أفضل من غيرهم درجة كما أنهم دون المجاهدين في الدرجة الدنيوية ، وأما أنهم مساوون لهم في الدرجة الأخروية فلا قطع به ، والآية ـ على ما قاله ابن جريج ـ تدل على أنهم دونهم في ذلك أيضا.
وقد أخرج ابن المنذر من طريق ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن ابن أم مكتوم كان بعد نزول الآية يغزو ، ويقول : ادفعوا إليّ اللواء وأقيموني بين الصفين فإني لن أفر ، وأخرج ابن منصور عن أنس بن مالك أنه قال : لقد رأيت ابن أم مكتوم بعد ذلك في بعض مشاهد المسلمين ومعه اللواء ، ويعلم من نفي المساواة في صدر الآية المستلزم للتفضيل المصرح به بعد بين المجاهد بالمال والنفس والقاعد نفيها بين المجاهد بأحدهما والقاعد ؛ واحتمال أن يراد من الآية نفي المساواة بين القاعد عن الجهاد بالمال والمجاهد به وبين القاعد عن الجهاد بالنفس والمجاهد بها بأن يكون المراد بالمجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم المجاهدين فيه بأموالهم ، والمجاهدين فيه بأنفسهم وبالقاعدين أيضا قسمي القاعد ، ويكون المراد نفي المساواة بين كل قسم من القاعد ومقابله بعيد جدا ، واحتج بها كما قال ابن الفرس : من فضل الغنى على الفقر بناء على أنه سبحانه فضل المجاهد بماله على المجاهد بغير ماله ، ولا شك أن الدرجة الزائدة من الفضل للمجاهد بماله إنما هي من جهة المال ، واستدلوا بها أيضا على تفضيل المجاهد بمال نفسه على المجاهد بمال يعطاه من الديوان ونحوه (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) تذييل مقرر لما وعد سبحانه من قبل (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) بيان لحال القاعدين عن الهجرة إثر بيان القاعدين عن الجهاد ، أو بيان لحال