الصلاة والسلام أصحابه رضي الله تعالى عنهم بأماراتهم ليحترزوا عنهم ، ولم يعينهم حذرا عن الفتنة وارتدادهم ولحوقهم بالمحاربين ، وقيل : ليس بمخصوص ولكنه مؤول بمن استحل ذلك ، أو المراد من اتصف بهذه فهو شبيه بالمنافقين الخلص ، وأطلق صلىاللهعليهوسلم ذلك عليه تغليظا وتهديدا له ، وهذا في حق من اعتاد ذلك لا من ندر منه ، أو هو منافق في أمور الدين عرفا والمنافق في العر ف يطلق على كل من أبطن خلاف ما يظهر مما يتضرر به وإن لم يكن إيمانا وكفرا ، وكأنه مأخوذ من النافقاء ، وليس المراد الحصر وهذا صدر منه صلىاللهعليهوسلم باقتضاء المقام ، ولذا ورد في بعض الروايات «ثلاث» وفي بعضها «أربع».
وقرأ الكوفيون (الدَّرْكِ) بسكون الراء وهو لغة كالسطر والسطر ، والفتح أكثر وأفصح لأنه ورد جمعه على أفعال ، وأفعال في فعل المحرك كثير مقيس ، ووروده في الساكن نادر كفرخ وأفراخ ، وزند وأزناد. ـ وكونه استغني بجمع أحدهما عن الآخر جائز لكنه خلاف الظاهر ، فلا يندفع به الترجيح ، والكلام مخرّج مخرج الحقيقة ، وزعم أبو القاسم البلخي أن لا طبقات في النار ، وأن هذا إخبار عن بلوغ الغاية في العقاب كما يقال : إن السلطان بلغ فلانا الحضيض وفلانا العرش ، يريدون بذلك انحطاط المنزلة وعلوها لا المسافة ، ولا يخفى أنه خلاف ما جاءت به الآثار ، و (مِنَ النَّارِ) في محل النصب على الحال ؛ وفي صاحبها وجهان : أحدهما أنه (الدَّرْكِ) والعامل الاستقرار ، والثاني أنه الضمير المستتر في (الْأَسْفَلِ) لأنه صفة ، فيتحمل الضمير أي حال كون ذلك من النار (وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً) يخرجهم منه أو يخفف عنهم ما هم فيه يوم القيامة حين يكونون في (الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ) وكون المراد (وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً) في الدنيا لتكون الآية وصفا لهم بأنهم خسروا الدنيا والآخرة ليس بشيء كما لا يخفى ، والخطاب لكل من يصلح له (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) عن النفاق وهو استثناء من المنافقين ، أو من ضميرهم في الخبر ، أو من الضمير المجرور في لهم ، وقيل : هو في موضع رفع بالابتداء والخبر ما بعد الفاء ؛ ودخلت ـ لما ـ في الكلام من معنى الشرط (وَأَصْلَحُوا) ما أفسدوا من نياتهم وأحوالهم في حال النفاق ، وقيل : ثبتوا على التوبة في المستقبل ، والأول أولى (وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ) أي تمسكوا بكتابه ، أو وثقوا به (وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ) لا يريدون بطاعتهم إلا وجهه ورضاه سبحانه لا رياء الناس ، ودفع الضرر كما في النفاق ، وأخرج أحمد والترمذي وغيرهما عن أبي ثمامة قال : قال الحواريون لعيسى عليهالسلام : يا روح الله من المخلص لله؟ قال : الذي يعمل لله تعالى لا يحب أن يحمده الناس عليه (فَأُولئِكَ) إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصفة وما فيه من معنى البعد لما مر غير مرة (مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) أي المعهودين من الذين لم يصدر منهم نفاق أصلا منذ آمنوا ، والمراد أنهم معهم في الدرجات العالية من الجنة ، أو معدودون من جملتهم في الدنيا والآخرة (وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً) لا يقادر قدره فيساهمونهم فيه ويقاسمونهم.
وفسر أبو حيان الأجر العظيم بالخلود ، والتعميم أولى ، والمراد بالمؤمنين هاهنا ما أريد به فيما قبله. واعتبار المساهمة جرى عليه غير واحد ، ولو لا تفسير الآية بذلك لم يكن لها في ذكر أحوال من تاب من النفاق معنى ظاهر.
وذهب بعضهم إلى عدم اعتبارها ، والمراد الإخبار بزيادة ثواب من لم يسبق منه نفاق أصلا ، وعمم بعض المؤمنين ليشمل من لم يتقدم منه نفاق ومن تقدم منه وتاب عنه ، والظاهر ما ذكرناه ، ورسم (يُؤْتِ) بغير ياء ، وهو مضارع مرفوع فحق يائه أن تثبت لفظا وخطا إلا أنها حذفت في اللفظ لالتقاء الساكنين ، وجاء الرسم تبعا للفظ والقراء يقفون عليه دونها اتباعا للرسم إلا يعقوب فإنه يقف بالياء نظرا إلى الأصل.
وروي ذلك أيضا عن الكسائي وحمزة ونافع وادعى السمين أن الأولى اتباع الرسم لأن الأطراف قد كثر حذفها