الله تعالى وجهه أن يبعثوا رجلا وحكما من أهله ورجلا حكما من أهلها ، ثم قال للحكمين : تدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا وإن رأيتما أن تفرقا أن تفرقا ، قالت المرأة : رضيت بكتاب الله تعالى بما عليّ فيه ولي ، وقال الرجل : أما الفرقة فلا ، فقال عليّ كرم الله تعالى وجهه : كذبت والله حتى تقر بمثل الذي أقرت به ، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في هذه الآية : (وَإِنْ خِفْتُمْ) إلخ هذا في الرجل والمرأة إذا تفاسد الذي بينهما أمر الله تعالى أن يبعثوا رجلا صالحا من أهل الرجل ورجلا مثله من أهل المرأة فينظران أيهما المسيء فإن كان الرجل هو المسيء حجبوا عنه امرأته وقسروه على النفقة ، وإن كانت المرأة هي المسيئة قسروها على زوجها ومنعوها النفقة فإن اجتمع أمرهما على أن يفرقا أو يجمعا فأمرهما جائز ، فإن رأيا أن يجمعا فرضي أحد الزوجين وكره ذلك الآخر ثم مات أحدهما فإن الذي رضي يرث الذي كره ولا يرث الكاره الراضي ، وقيل : ليس لهما ذلك ، وروي ذلك عن الحسن.
فقد أخرج عبد الرزاق وغيره عنه أنه قال : إنما يبعث الحكمان ليصلحا ويشهدا على الظالم بظلمه ، وأما الفرقة فليست بأيديهما ، وإلى ذلك ذهب الزجاج ، ونسب إلى الإمام الأعظم ، وأجيب عن فعل علي كرم الله تعالى وجهه بأنه إمام وللإمام أن يفعل ما رأى فيه المصلحة فلعله رأى المصلحة فيما ذكر فوكل الحكمين على ما رأى على أن في كلامه ما يدل على أن تنفيذ الأمر موقوف على الرضا حيث قال : للرجل كذبت حتى تقر بمثل الذي أقرت به.
وأنت تعلم أن هذا على ما فيه لا يصلح جوابا عما روي عن ابن عباس ، ولعل المسألة اجتهادية وكلام أحد المجتهدين لا يقوم حجة على الآخر وذهب الإمامية إلى ما ذهب إليه الحسن وكأن الخبر عن علي كرم الله تعالى وجهه لم يثبت عندهم ، وعن الشافعي روايتان في المسألة ، وعن مالك أن لهما أن يتخالعا إن وجدا الصلاح فيه ، ونقل عن بعض علمائنا أن الإساءة إن كانت من الزوج فرقا بينهما وإن كانت منها فرقا على بعض ما أصدقها ، والظاهر أن من ذهب إلى القول بنفاذ حكمهما جعلهما وكيلين حكما على ذلك.
وقال ابن العربي في الأحكام : إنهما قاضيان لا وكيلان فإن الحكم اسم في الشرع له (إِنْ يُرِيدا) أي الحكمان (إِصْلاحاً) أي بين الزوجين وتأليفا (يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما) فتتفق كلمتهما ويحصل مقصودهما ؛ فالضمير أيضا للحكمين ، وإلى ذلك ذهب ابن عباس ومجاهد والضاحك وابن جبير والسدي.
وجوز أن يكون الضميران للزوجين أي إن أرادا إصلاح ما بينهما من الشقاق أوقع الله تعالى بينهما الألفة والوفاق ، وأن يكون الأول للحكمين ، والثاني للزوجين أي إن قصدا إصلاح ذات البين وكانت نيتهما صحيحة وقلوبهما ناصحة لوجه الله تعالى أوقع الله سبحانه بين الزوجين الألفة والمحبة وألقى في نفوسهما الموافقة والصحبة ، وأن يكون الأول للزوجين ، والثاني للحكمين أي إن يرد الزوجان إصلاحا واتفاقا يوفق الله تعالى شأنه بين الحكمين حتى يعملا بالصلاح ويتحرياه (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً) بالظواهر والبواطن فيعلم إرادة العباد ومصالحهم وسائر أحوالهم ، وقد استدل الحبر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بهذه الآية على الخوارج في إنكارهم التحكيم في قصة علي كرم الله تعالى وجهه ، وهو أحد أمور ثلاثة علقت في أذهانهم فأبطلها كلها رضي الله تعالى عنه فرجع إلى موالاة الأمير كرم الله تعالى وجهه منهم عشرون ألفا ، وفيها ـ كما قال ابن الفرس ـ رد على من أنكر من المالكية بعث الحكمين في الزوجين ، وقال : تخرج المرأة إلى دار أمين أو يسكن معها أمين (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) كلام مبتدأ مسوق للإرشاد إلى خلال مشتملة على معالي الأمور إثر إرشاد كل من الزوجين إلى المعاملة الحسنة ، وإزالة الخصومة والخشونة إذا وقعت في البين وفيه تأكيد لرعاية حق الزوجية وتعليم المعاملة مع أصناف من الناس ، وقدم الأمر بما