الاستئناف والمعطوف شريك للمعطوف عليه فيما سبق له ، والمعنى أنهم لا يكتفون بضلال أنفسهم بل يريدون بما فعلوا من تكذيب النبي صلىاللهعليهوسلم وكتم نعوته الناطقة بها التوراة أن تكونوا أنتم أيضا ضالين الطريق المستقيم الموصل إلى الحق ، والتعبير بصيغة المضارع في الموضعين للإيذان بالاستمرار التجددي فإن تجدد حكم اشترائهم المذكور وتكرر العمل بموجبه في قوة تجدد نفسه وتكرره ، وفي ذلك أيضا من التشنيع ما لا يخفى ، وقرئ أن يضلوا بالياء بفتح الضاد وكسرها (وَاللهُ أَعْلَمُ) منكم أيها المؤمنون (بِأَعْدائِكُمْ) الذين من جملتهم هؤلاء ، وقد أخبركم بعداوتهم لكم وما يريدون فاحذروهم ، فالجملة معترضة للتأكيد وبيان التحذير وإلا فأعلمية الله تعالى معلومة ، وقيل : المعنى أنه تعالى أعلم بحالهم ومآل أمرهم فلا تلتفتوا إليهم ولا تكونوا في فكر منهم (وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا) يلي أمركم وينفعكم بما شاء (وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً) يدفع عنكم مكرهم وشرهم فاكتفوا بولايته ونصرته ولا تبالوا بهم ولا تكونوا في ضيق مما يمكرون ، وفي ذلك وعد للمؤمنين ووعيد لأعدائهم ، والجملة معترضة أيضا ، والباء مزيدة في فاعل (كَفى) تأكيدا للنسبة بما يفيد الاتصال وهو الباء الإلصاقية ، وقال الزجاج : إنما دخلت هذه الباء لأن الكلام على معنى اكتفوا بالله ، و (وَلِيًّا) و (نَصِيراً) منصوبان على التمييز ، وقيل : على الحال ، وتكرير الفعل في الجملتين مع إظهار الاسم الجليل لتأكيد كفايته عزوجل مع الإشعار بالعلية.
(مِنَ الَّذِينَ هادُوا) قيل : هو بيان ـ للذين أوتوا ـ المتناول بحسب المفهوم لأهل الكتابين ، وقد وسط بينهما ما وسط لمزيد الاعتناء ببيان محل التشنيع والتعجيب والمسارعة إلى تنفير المؤمنين عنهم والاهتمام بحثهم على الثقة بالله تعالى والاكتفاء بولايته ونصرته ، واعترضه أبو حيان بأن الفارسي قد منع الاعتراض بجملتين فما ظنك بالثلاث؟! وأجاب الحلبي بأن الخلاف إذا لم يكن عطف ـ والجمل هنا متعاطفة ـ وبه يصير الشيئان شيئا واحدا ، وقيل : إنه بيان لأعدائكم ، وفيه أنه لا وجه لتخصيص علمه سبحانه بطائفة من أعدائهم لا سيما في معرض الاعتراض ، وقيل : إنه صلة ـ لنصير ـ أي ينصركم (مِنَ الَّذِينَ هادُوا) وفيه تحجير لواسع نصرة الله تعالى مع أنه لا داعي لوضع الموصول موضع ضمير الأعداء وكون ما في حيز الصلة وصفا ملائما للنصر غير ظاهر ، وقيل : إنه خبر مبتدأ محذوف ، وقوله تعالى : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) صفة له أي (مِنَ الَّذِينَ هادُوا) قوم (يُحَرِّفُونَ) ويتعين هذا في قراءة عبد الله و (مِنَ الَّذِينَ) وقد تقرر أن المبتدأ إذا وصف بجملة أو ظرف ، وكان بعض اسم مجرور بمن أو في مقدم عليه يطرد حذفه ، ومنه قوله :
وما الدهر إلا تارتان فمنهما |
|
أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح |
والفراء يجعل المبتدأ المحذوف اسما موصولا ، و (يُحَرِّفُونَ) صلته أي (مِنَ الَّذِينَ هادُوا) من (يُحَرِّفُونَ) والبصريون يمنعون حذف الموصول مع بقاء صلته إلا أنه يؤيده ما في مصحف حفصة رضي الله تعالى عنها ـ من يحرفون ـ واعترض هذا أيضا بأنه يقتضي بظاهره كون الفريق السابق بمعزل من التحريف الذي هو المصداق لاشترائهم في الحقيقة ، و (الْكَلِمَ) اسم جنس واحده كلمة ـ كلبنة ولبن ، ونبقة ونبق ـ وقيل : جمع ـ وليس بشيء على المختار ـ ولعل من أطلقه عليه أراد المعنى اللغوي أعني ما يدل على ما فوق الاثنين مطلقا ، وتذكير ضميره باعتبار أفراده لفظا ، وجمعيته باعتبار تعدده معنى ، وقرئ بكسر الكاف وسكون اللام جمع ـ كلمة ـ تخفيف كلمة بنقل كسرة اللام إلى الكاف ، وقرئ (يُحَرِّفُونَ) الكلام ، والمراد به هاهنا إما ما في التوراة وإما ما هو أعم منه ، ومما سيحكى عنهم من الكلمات الواقعة منهم في أثناء محاورتهم مع الرسولصلىاللهعليهوسلم ، والأول هو المأثور عن السلف كابن عباس ومجاهد وغيرهما ، وتحريف ذلك إما إزالته عن مواضعه التي وضعه الله تعالى فيها من التوراة كتحريفهم ـ ربعة