المتبادر من إطلاق اللفظ ، الثاني أنه لو حمل لفظ المغفرة في الآية على التأخير لزم منه التخصيص في أن الله لا يغفر أن يشرك به لأن عقوبة الشرك مؤخرة في حق كثير من المشركين بل ربما كانوا في أرغد عيش وأطيبه بالنسبة إلى عيش بعض المؤمنين وأن لا يفرق في مثل هذه الصورة بين الشرك وما دونه بخلاف حملها على الإسقاط ، الثالث أن الأمة من السلف قبل ظهور المخالفين لم يزالوا مجمعين على حمل لفظ المغفرة في الآية على سقوط العقوبة وما وقع عليه الإجماع هو الصواب وضده لا يكون صوابا. وقولهم : لا يحصل الغرض أيضا لو حملت على ذلك لأنه إما أن يراد إلخ قلنا : بل المراد إسقاط كل واحد واحد وبيانه أن قوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) سلب للغفران فإذا كان المفهوم من الغفران إسقاط العقوبة فسلب الغفران سلب السلب فيكون إثباتا ، ومعناه إقامة العقوبة ، وعند ذلك فإما أن يكون المفهوم إقامة كل أنواع العقوبات ، أو بعضها لا سبيل إلى الأول لاستحالة الجمع بين العقوبات المتضادة ولأن ذلك غير مشترط في حق الكفار إجماعا فلم يبق إلا الثاني ، ويلزم من ذلك أن يكون الغفران فيما دون الشرك بإسقاط كل عقوبة وإلا لما تحقق الفرق بين الشرك وما دونه ، ومنهم من وقع في حيص بيص في هذه الآية حتى زعم أن (وَيَغْفِرُ) عطف على المنفي والنفي منسحب عليهما ، والآية للتسوية بين الشرك وما دونه لا للتفرقة ، ولا يخفى أنه من تحريف كلام الله تعالى ووضعه في غير مواضعه.
ومن الجماعة من قال في الرد على المعتزلة : إن التقييد بالمشيئة ينافي وجوب التعذيب قبل التوبة ووجوب الصفح بعدها ، وتعقبه صاحب الكشف بأنه لم يصدر عن ثبت لأن الوجوب بالحكمة يؤكد المشيئة عندهم ، وأيضا قد أشار الزمخشري في هذا المقام إلى أن المشيئة بمعنى الاستحقاق وهي تقتضي الوجوب وتؤكده فلا يرد ما ذكر رأسا.
ثم إن هذه الآية كما يرد بها على المعتزلة يرد بها على الخوارج الذين زعموا أن كل ذنب شرك وأن صاحبه خالد في النار ، وذكر الجلال السيوطي أن فيها ردا أيضا على المرجئة القائلين : إن أصحاب الكبائر من المسلمين لا يعذبون.
وأخرج ابن الضريس وابن عدي بسند صحيح عن ابن عمر قال : «كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا من نبينا صلىاللهعليهوسلم (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ)» الآية ، وقال : إني ادخرت دعوتي وشفاعتي لأهل الكبائر من أمتي فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا ثم نطقنا ورجونا ، وقد استبشر الصحابة رضي الله تعالى عنهم بهذه الآية جدا حتى قال علي كرم الله تعالى وجهه فيما أخرجه عنه الترمذي وحسنه : أحب آية إليّ في القرآن (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ).
(وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ) استئناف مشعر بتعليل عدم غفران الشرك ، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لإدخال الروعة ، وزيادة تقبيح الإشراك ، وتفظيع حال من يتصف به أي ومن يشرك بالله تعالى الجامع لجميع صفات الكمال من الجمال ، والجلال أي شرك كان (فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) أي ارتكب ما يستحقر دونه الآثام فلا تتعلق به المغفرة قطعا ، وأصل الافتراء من الفري ، وهو القطع ولكون قطع الشيء مفسدة له غالبا غلب على الإفساد ، واستعمل في القرآن بمعنى الكذب ، والشرك والظلم كما قاله الراغب ، فهو ارتكاب ما لا يصلح أن يكون قولا أو فعلا ، فيقع على اختلاق الكذب وارتكاب الإثم ، وهو المراد هنا ، وهل هو مشترك بين اختلاق الكذب وافتعال ما لا يصلح أم حقيقة في الأول مجاز مرسل ، أو استعارة في الثاني؟ قولان : أظهرهما عند البعض الثاني ، ولا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز لأن الشرك أعم من القولي والفعلي لأن المراد معنى عام وهو ارتكاب ما لا يصلح ، وفي مجمع البيان التفرقة بين فريت وأفريت في أصل المعنى بأنه يقال : فريت الأديم إذا قطعته على وجه الإصلاح ، وأفريته إذا قطعته على وجه