ارتباطه وكذا يقال فيما بعد فتأمل فيه ولا تغفل (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ) ويعاين دلائل نبوتك الواضحة ولكن لا يهتدي بها كالأعمى (أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ) تقدر على هدايتهم (وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ) أي ولو انضم إلى عدم البصر عدم البصيرة فإن المقصود من الأبصار هو الاعتبار والاستبصار والعمدة في ذلك هي البصيرة ولذلك يحدس الأعمى المستبصر ويتفطن لما لا يدرك البصير الأحمق ، فلا يقال : كيف أثبت لهم النظر والأبصار أو لا ونفى عنهم ثانيا.
(إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ) أي لا ينقصهم (شَيْئاً) مما نيطت به مصالحهم وكمالاتهم من مبادئ الإدراكات وأسباب العلوم والإرشاد إلى الحق بإرسال الرسل عليهمالسلام ونصب الأدلة بل يوفيهم ذلك فضلا منه جل شأنه وكرما (وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي ينقصون ما ينقصون من ذلك لعدم استعمال مشاعرهم فيما خلقت له وإعراضهم عن قبول الحق وتكذيبهم للرسل وترك النظر في الأدلة ـ فشيئا ـ مفعول ثان ـ ليظلم ـ بناء على أنه مضمن معنى ينقص كما قيل أو أنه بمعناه من غير حاجة إلى القول بالتضمين كما نقول وأن النقص يتعدى لاثنين كما يكون لازما ومتعديا لواحد ، ولم يذكر ثاني مفعولي الثاني لعدم تعلق الغرض به ، وتقديم المفعول الأول يحتمل أن يكون لمجرد الاهتمام مع مراعاة الفاصلة من غير قصد إلى قصر المظلومية عليهم على رأي من لا يرى التقديم موجبا للقصر كابن الأثير ومن تبعه كما في قوله سبحانه : (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) [هود : ١٠١] ويحتمل أن يكون لقصر المظلومية على رأي من يرى التقديم موجبا لذلك كالجمهور ومن تبعهم ، ولعل إيثار قصرها على قصر الظالمية عليهم للمبالغة في بطلان أفعالهم وسخافة عقولهم على أن قصر الأولى عليهم مستلزم كما قيل لما يقتضيه ظاهر الحال من قصر الثانية عليهم فاكتفى بالقصر الأول عن الثاني مع رعاية ما ذكر من الفائدة.
وجوز بعضهم كون (أَنْفُسَهُمْ) تأكيدا للناس والمفعول حينئذ محذوف فيكون بمنزلة ضمير الفصل في قوله تعالى : (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) [الزخرف : ٧٦] في قصر الظالمية عليهم ، والتعبير عن فعلهم ذلك بالنقص مع كونه تفويتا بالكلية لمراعاة جانب قرينه ، وصيغة المضارع للاستمرار نفيا وإثباتا أما الثاني فظاهر وأما الأول فلأن حرف النفي إذا دخل على المضارع يفيد بحسب المقام استمرار النفي لا نفي الاستمرار كما مر غير مرة.
وقيل : المعنى أن الله لا يظلم الناس بتعذيبهم يوم القيامة شيئا من الظلم ولكن الناس أنفسهم يظلمون ظلما مستمرا فإن مباشرتهم المستمرة للسيئات الموجبة للتعذيب عين ظلمهم لأنفسهم فالظلم على معناه المشهور ، و (شَيْئاً) مفعول مطلق والمضارع المنفي للاستقبال والمثبت للاستمرار ، ومساق الآية الكريمة على الأول لإلزام الحجة وعلى الثاني للوعيد وعلى الوجهين هي تذييل لما سبق ، وجعلها على الأول تذييلا لجميع التكاليف والأقاصيص المذكورة من أول السورة وإن كان متجها خلاف الظاهر لا سيما وما بعد ليس ابتداء مشروع في قصة آخرين.
وقيل : معنى الآية أن الله لا يظلم الناس شيئا بسلب حواسهم وعقولهم إن سلبها لأنه تصرف في خالص ملكه ولكن الناس أنفسهم يظلمون بإفساد ذلك وصرفه لما لا يليق ، وهي جواب لسؤال نشأ من الآية السابقة والظلم فيها على ظاهره أيضا. واستدل بها على أن للعبد كسبا وليس مسلوب الاختيار بالكلية كما ذهب إليه الجبرية والمختار عند كثير من المحققين أن نفي ظلم الناس عنه تعالى شأنه لأنه سبحانه جواد حكيم يفيض على القوابل حسب استعدادها الأزلي الثابت في العلم فما من كمال أو نقص في العبد إلا هو كماله أو نقصه الذي اقتضاه استعداده كما يرشد إلى ذلك قوله جل وعلا : (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ) [طه : ٥٠] وقوله سبحانه : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها)