أنهم عبروا بما عبروا أولا لذلك مع التعريض من أول الأمر برأي المتبعين ومجاراة معه عليهالسلام بطريق الآراء على نهج الإنصاف (قالَ) استئناف بياني (يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ) أي أخبروني ، وفيه إيماء إلى ركاكة رأيهم المذكور (إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ) حجة ظاهرة (مِنْ رَبِّي) وشاهد يشهد لي بصحة دعواي (وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ) هي النبوة على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وجوز أن تكون هي البينة نفسها جيء بها إيذانا بأنها مع كونها بينة من الله تعالى رحمة ونعمة عظيمة منه سبحانه ، ووجه إفراد الضمير في قوله تعالى : (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) أي أخفيت على هذا ظاهر ، وإن أريد بها النبوة وبالبينة البرهان الدال على صحتها فالافراد لإرادة كل واحدة منهما ، أو لكون الضمير للبينة والاكتفاء بذلك لاستلزام خفاء البينة خفاء المدعى ، وجملة (وَآتانِي رَحْمَةً) على هذا معترضة أو لكونه للرحمة ، وفي الكلام مقدر أي أخفيت الرحمة بعد إخفاء البينة وما يدل عليها وحذف للاختصار ، وقيل : إنه معتبر في المعنى دون تقدير ، أو لتقدير ـ عميت ـ غير المذكور بعد لفظ البينة وحذف اختصارا ، وفيه تقدير جملة قبل الدليل.
وقرأ أكثر السبعة «فعميت» بفتح العين وتخفيف الميم مبنيا للفاعل ، وهو من العمى ضد البصر ، والمراد به هذا الخفاء مجازا يقال : حجة عمياء كما يقال : مبصرة للواضحة ، وفي الكلام استعارة تبعية من حيث إنه شبه خفاء الدليل بالعمى في أن كلّا منهما يمنع الوصول إلى المقاصد ، ثم فعل ما لا يخفى عليك ، وجوز أن يكون هناك استعارة تمثيلية بأن شبه الذي لا يهتدي بالحجة لخفائها عليه بمن سلك مفازة لا يعرف طرقها واتبع دليلا أعمى فيها ، وقيل : الكلام على القلب ، والأصل فعميتم عنها كما تقول العرب : أدخلت القلنسوة في رأسي ، ومنه قول الشاعر :
ترى الثور فيها يدخل الظل رأسه
وقوله سبحانه : (فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) [إبراهيم : ٤٧] وتعقبه أبو حيان بأن القلب عند أصحابنا مطلقا لا يجوز إلا في الضرورة ، وقول الشاعر ليس منه بل من باب الاتساع في الظرف ، وكذا الآية ليست منه أيضا لأن أخلف يتعدى إلى المفعولين ، والوصف منه كذلك ولك أن تضيفه إلى أيهما شئت على أنه لو كان ما ذكر من القلب لكان التعدي بعن دون على ، ألا ترى أنك تقول : عميت عن كذا ولا تقول : عميت على كذا.
وروى الأعمش عن وثاب ـ وعميت ـ بالواو الخفيفة ، وقرأ أبيّ والسلمي والحسن وغيرهم فعماها عليكم على أن الفعل لله تعالى ، وقرئ بالتصريح به وظاهر ذلك مع أهل السنة القائلين بأن الحسن والقبيح منه تعالى ، ولذا أوله الزمخشري حفظا لعقيدته (أَنُلْزِمُكُمُوها) أي أنكرهكم على الاهتداء بها وهو جواب أرأيتم وساد مسد جواب الشرط.
وفي البحر أنه في موضع المفعول الثاني له ومفعول الأول البينة مقدرا وجواب الشرط محذوف دل عليه (أَرَأَيْتُمْ) أي (إِنْ كُنْتُ) إلخ فأخبروني وحيث اجتمع ضميران منصوبان وقد قدم أعرفهما ـ وهو ضمير المخاطب الأعرف من ضمير الغائب ـ جاز في الثاني الوصل والفصل فيجوز في غير القرآن أنلزمكم إياها وهو الذي ذهب إليه ابن مالك في التسهيل ووافقه عليه بعضهم ، وقال ابن أبي الربيع : يجب الوصل في مثل ذلك ويشهد له قول سيبويه في الكتاب : فإذا كان المفعولان اللذان تعدى إليهما فعل الفاعل مخاطبا وغائبا فبدأت بالمخاطب قبل الغائب فإن علامة الغائب العلامة التي لا يقع موقعها إياه وذلك نحو أعطيتكه وقد أعطاكه ، قال الله تعالى : (أَنُلْزِمُكُمُوها) فهذا كهذا إذ بدأت بالمخاطب قبل الغائب انتهى ، ولو قدم الغائب وجب الانفصال على الصحيح فيقال : أنلزمها إياكم.
وأجاز بعضهم الاتصال ، واستشهد بقول عثمان رضي الله تعالى عنه : أراهمني ، ولم يقل : أراهم إياي ، وتمام الكلام على ذلك في محله ، وجيء بالواو تتمة لميم الجمع ، وحكي عن أبي عمرو إسكان الميم الأولى تخفيفا ،