الْماءِ) فلا يصل إلي. قال ذلك زعما منه أن ذلك كسائر المياه في أزمنة السيول المعتادة التي ربما يتقي منها بالصعود إلى مرتفع ؛ وجهلا منه بأن ذلك إنما كان لإهلاك الكفرة فلا بد أن يدركهم ولو كانوا في قلل الجبال (قالَ) مبينا له حقيقة الحال وصارفا له عن ذلك الفكر المحال (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) نفي لجنس العاصم المنتظم لنفي جميع أفراده ذاتا وصفة للمبالغة في نفي كون الجبل عاصما ، وزاد (الْيَوْمَ) للتنبيه على أنه ليس كسائر الأيام التي تقع فيها الوقائع وتلم فيها الملمات المعتادة التي ربما يتخلص منها بالالتجاء إلى بعض الأسباب العادية ، وعبر عن الماء في محل إضماره بأمر الله أي عذابه الذي أشير إليه أولا بقوله سبحانه : (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا) تفخيما لشأنه وتهويلا لأمره وتنبيها لابنه على خطئه في تسميته ماء وتوهمه أنه كسائر المياه التي يتخلص منها بالهرب إلى بعض المهارب المعهودة ، وتعليلا للنفي المذكور فإن أمر الله سبحانه لا يغالب وعذابه لا يرد ، وتمهيدا لحصر العصمة في جناب الله تعالى عز جاره بالاستثناء كأنه قيل : لا عاصم من أمر الله تعالى إلا هو تعالى ، وإنما قيل : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ) تفخيما لشأنه الجليل جل شأنه وإشعارا بعلية رحمته بموجب سبقها غضبه كل ذلك لكمال عنايته عليهالسلام بتحقيق ما يتوخاه من نجاة ابنه ببيان شأن الداهية وقطع أطماعه الفارغة وصرف عنانه عن التعلل بما لا يغني عنه شيئا وإرشاده إلى العياذ بالمعاذ الحق عز حماه ، ولذا عدل عما يقتضيه الظاهر من الجواب بقوله : لا يعصمك الجبل منه كذا ذكره بعض المحققين وهو أحد أوجه في الآية وأقواها.
والوجه الثاني أن عاصما صيغة نسبة ، والمراد بالموصول المرحوم أي لا ذا عصمة أي معصوم إلا من رحمهالله تعالى ، وأيد ذلك بأنه قرئ (إِلَّا مَنْ رَحِمَ) بالبناء للمفعول ، واعترضه في الكشف بأن فاعلا بمعنى النسبة قليل ، وأجيب بأنه إن أراد قلته في نفسه فممنوع وإن بالنسبة إلى الوصف فلا يضر.
والثالث أن ـ عاصما ـ على ظاهره ، و (مَنْ رَحِمَ) بمعنى المرحوم والاستثناء منقطع لا متصل كما في الوجهين الأولين أي لا عاصم من أمر الله لكن من رحمهالله تعالى فهو معصوم ، وأورد عليه بأن مثل هذا المنقطع قليل لأنه في الحقيقة جملة منقطعة تخالف الأولى لا في النفي والإثبات فقط بل في الاسمية والفعلية أيضا ، والأكثر فيه مثل ما جاءني القوم إلا حمارا ، والرابع أن ـ عاصما ـ بمعنى معصوم كدافق بمعنى مدفوق وفاتن بمعنى مفتون في قوله :
بطيء القيام رخيم الكلا |
|
م أمسى فؤادي به «فاتنا» |
و (مَنْ رَحِمَ) بمعنى الراحم ، والاستثناء منقطع أيضا أي لا معصوم إلا الراحم على معنى لكن الراحم يعصم من أراد ، والخامس أن الكلام على إضمار المكان والاستثناء متصل أي لا عاصم إلا مكان من رحمهالله من المؤمنين وهو السفينة ، قيل : وهو وجه حسن فيه مقابلة لقوله : (يَعْصِمُنِي) وهو المرجح بعد الأول ، والعاصم على هذا حقيقة لكن إسناده إلى المكان مجازي ، وقيل : إنه مجاز مرسل عن مكان الاعتصام ، والمعنى لا مكان اعتصام إلا مكان من رحمهالله ، وادعى أنه أرجح من الكل لأنه ورد جوابا عن قوله : (سَآوِي إِلى جَبَلٍ) إلخ وليس بمسلم ، والسادس ما أبداه صاحب الكشف من عنده وهو أن المعنى لا معصوم إلا مكان من رحمهالله تعالى ، ويراد به عصمة من فيه على الكناية فإن السفينة إذا عصمت عصم من فيها ، والسابع أن الاستثناء مفرغ ، والمعنى لا عاصم اليوم أحدا أو لأحد إلا من رحمهالله أو لمن رحمهالله سبحانه ، وعده بعضهم أقربها ، ولا أظنك تعدل بالوجه الأول وجها وهو الذي اختاره ، والظاهر على ما قال أبو حيان : إن خبر لا محذوف للعلم به أي (لا عاصِمَ) موجود ، والأكثر الحذف في مثل ذلك عند الحجازيين ، والتزم الحذف فيه بنو تميم ويكون اليوم منصوبا على إضماره فعل يدل عليه (عاصِمَ) أي (لا عاصِمَ)