المؤمن الذي هو عبارة عن الجوهر الباقي بدنه الذي هو مركبه وآلته ، والظاهر أنه أراد بالجوهر الباقي الجوهر المجرد المخصوص وهو النفس الناطقة ، ولا يخفى أن جمهور المتكلمين على نفي المجردات وإنكار النفس الناطقة وأن الإنسان هو هذا الهيكل المحسوس ، وبذلك أبطل بعض أجلّة المتأخرين من أفاضل المعاصرين القول بخلق الأفعال لما يلزم عليه من كون الفاعل والقابل واحدا ، وقد قالوا : بامتناع اتحادهما ، والإنصاف إثبات شيء مغاير للبدن والهيكل المحسوس في الإنسان ، والمبيع أما ذاك ومعنى بيعه تعريضه للمهالك والخروج عن التعلق الخاص بالبدن وإما البدن ومعنى بيعه ظاهر إلا أنه ربما يدعي أن المتبادر من النفس غير ذلك كما لا يخفى على ذوي النفوس الزكية النبيون نعت للمؤمنين ، وقطع لأجل المدح أي هم التائبون ويدل على ذلك قراءة عبد الله. وأبي «التائبين» بالياء على أنه منصوب على المدح أو مجرور على أنه صفة للمؤمنين.
وجوز أن يكون (التَّائِبُونَ) مبتدأ والخبر محذوف أي من أهل الجنة أيضا وإن لم يجاهدوا لقوله تعالى : (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) فإن كلا فيه عام ، والحسنى بمعنى الجنة.
وقيل : الخبر قوله تعالى : (الْعابِدُونَ) وما بعده خبر بعد خبر ، وقيل : خبره (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) وقيل : إنه بدل من ضمير (يُقاتِلُونَ) والأول أظهر إلا أن يكون الموعود بالجنة عليه هو المجاهد المتصف بهذه الصفات لا كل مجاهد وبذلك يشعر ما أخرجه ابن أبي شيبة. وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : الشهيد من كان فيه الخصال التسع وتلا هذه الآية.
وأورد عليه أنه ينافي ذلك ما صح من حديث مسلم من أن من قتل في سبيل الله تعالى وهو صابر محتسب مقبل غير مدبر كفرت خطاياه إلا الدين فإنه ظاهر في أن المجاهد قد لا يكون متصفا بجميع ما في الآية من الصفات وإلا لا يبقى لتكفير الخطايا وجه ، وكأنه من هنا اختار الزجاج كونه مبتدأ والخبر محذوف كما سمعت إذ في الآية عليه تبشير مطلق المجاهدين بما ذكر وهو المفهوم من ظواهر الأخبار. نعم دل كثير منها على أن الفضل الوارد في المجاهدين مختص بمن قاتل لتكون كلمة الله تعالى هي العليا وأن من قاتل للدنيا والسمعة استحق النار. وفي صحيح مسلم ما يقتضي ذلك فليفهم ، والمراد من التائبين على ما أخرجه ابن جرير ، وابن المنذر ، وغيرهما عن الحسن وقتادة الذين تابوا عن الشرك ولم ينافقوا. وأخرج ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عن الضحاك أنهم الذين تابوا عن الشرك والذنوب ، وأيد ذلك بأن التائبين في تقدير الذين تابوا وهو من ألفاظ العموم يتناول كل تائب فتخصيصه بالتائب عن بعض المعاصي تحكم. وأجيب بأن ذكرهم بعد ذكر المنافقين ظاهر في حمل التوبة على التوبة عن الكفر والنفاق ، وأيضا لو حملت التوبة على التوبة عن المعاصي يكون ما ذكر بعد من الصفات غير تام الفائدة مع أن من اتصف بهذه الصفات الظاهر اجتنابه للمعاصي ، والمراد من العابدين الذين أتوا بالعبادة على وجهها ، وقال الحسن : هم الذين عبدوا الله تعالى في أحايينهم كلها أما والله ما هو بشهر ولا شهرين ولا سنة ولا سنتين ولكن كما قال العبد الصالح : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) [مريم : ٣١] وقال قتادة : هم قوم أخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم ، (الْحامِدُونَ) أي الذين يحمدون الله تعالى على كل حال كما روي عن غير واحد من السلف ، فالحمد بمعنى الوصف بالجميل مطلقا ، وقيل : هو بمعنى الشكر فيكون في مقابلة النعمة أي الحامدون لنعمائه تعالى وأنت تعلم أن الحمد في كل حال أولى وفيه تأس برسول الله صلىاللهعليهوسلم : فقد أخرج ابن مردويه وأبو الشيخ والبيهقي في الشعب عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم أول من يدعى إلى الجنة الحمادون الذين يحمدون على السراء والضراء» وجاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : «كان النبي صلىاللهعليهوسلم إذا أتاه الأمر يسره قال : الحمد لله الذي بنعمته