تتم الصالحات وإذا أتاه الأمر يكرهه قال : الحمد لله على كل حال» (السَّائِحُونَ) أي الصائمون ، فقد أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم «أن النبي صلىاللهعليهوسلم سئل عن ذلك فأجاب بما ذكر» وإليه ذهب جلة من الصحابة والتابعين.
وجاء عن عائشة «سياحة هذه الأمة الصيام» ، وهو من باب الاستعارة لأن الصوم يعوق عن الشهوات كما إن السياحة تمنع منها في الأكثر ، أو لأنه رياضة روحانية ينكشف بها كثير من أحوال الملك والملكوت فشبه الاطلاع عليها بالاطلاع على البلدان والأماكن النائية إذ لا يزال المرتاض يتوصل من مقام إلى مقام ويدخل من مدائن المعارف إلى مدينة بعد أخرى على مطايا الفكر. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد أن السائحين هم المهاجرون وليس في أمة محمد صلىاللهعليهوسلم سياحة إلا الهجرة.
وأخرج هو وأبو الشيخ عن عكرمة أنهم طلبة العلم لأنهم يسيحون في الأرض لطلبه ، وقيل : هم المجاهدون لما أخرج الحاكم وصححه والطبراني وغيرهما «عن أبي أمامة أن رجلا استأذن رسول الله صلىاللهعليهوسلم في السياحة فقال : إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله تعالى» والمختار ما تقدم كما أشرنا إليه ، وإنما لم تحمل السياحة على المعنى المشهور لأنها نوع من الرهبانية ، وقد نهى عنها وكانت كما أخرج ابن جرير عن وهب بن منبه في بني إسرائيل (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) أي في الصلوات المفروضات كما روي عن الحسن ، فالركوع والسجود على معناهما الحقيقي ، وجعلهما بعضهم عبارة عن الصلاة لأنهما أعظم أركانها فكأنه قيل : المصلون (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) أي الإيمان (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أي الشرك كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في الأمرين ، ولو أبقى لفظ النظم الجليل على عمومه لكان له وجه بل قيل إنه الأولى ، والعطف هنا على ما في المغني إنما كان من جهة إن الأمر والنهي من حيث هما أمر ونهي متقابلان بخلاف بقية الصفات لأن الآمر بالمعروف ناه عن المنكر وهو ترك المعروف والناهي عن المنكر آمر بالمعروف فأشير إلى الاعتداد بكل من الوصفين وأنه لا يكفي فيه ما يحصل في ضمن الآخر ، وحاصله على ما قيل : إن العطف لما بينهما من التقابل أو لدفع الإيهام.
ووجه بعض المحققين ذلك بأن بينهما تلازما في الذهن والخارج لأن الأوامر تتضمن النواهي ومنافاة بحسب الظاهر لأن أحدهما طلب فعل والآخر طلب ترك فكانا بين كمال الاتصال والانقطاع المقتضي للعطف بخلاف ما قبلهما ، وقيل : إن العطف للدلالة على أنهما في حكم خصلة واحدة كأنه قيل : الجامعون بين الوصفين ، ويرد على ظاهره أن (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) في حكم خصلة واحدة أيضا فكان ينبغي فيهما العطف على ما ذكر إذ معناه الجامعون بين الركوع والسجود ويدفع بأدنى التفات ، وأما العطف في قوله سبحانه : (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) أي فيما بينه وعينه من الحقائق والشرائع فقيل للإيذان بأن العدد قد تم بالسابع من حيث إن السبعة هو العدد التام والثامن ابتداء تعداد آخر معطوف عليه ولذلك يسمى واو الثمانية ، وإليه مال أبو البقاء وغيره ممن أثبت واو الثمانية وهو قول ضعيف لم يرضه النحاة كما فصله ابن هشام وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه ، وقيل : إنه للتنبيه على أن ما قبله مفصل الفضائل وهذا مجملها ، يعني أنه من ذكر أمر عام شامل لما قبله وغيره ، ومثله يؤتى به معطوفا نحو زيد وعمرو وسائر قبيلته كرماء فلمغايرته بالإجمال والتفصيل والعموم والخصوص عطف عليه ، وقيل : هو عطف عليه ، وقيل : هو عطف على ما قبله من الأمر والنهي لأن من لم يصدق فعله قوله لا يجدي أمره نفعا ولا يفيد نهيه منعا.
وقال بعض المحققين : إن المراد بحفظ الحدود ظاهره وهي إقامة الحد كالقصاص على من استحقه ؛ والصفات الأول إلى قوله سبحانه : و (الْآمِرُونَ) صفات محمودة للشخص في نفسه وهذه له باعتبار غيره فلذا تغاير