تعبير الصنفين فترك العاطف في القسم الأول وعطف في الثاني ، ولما كان لا بد من اجتماع الأول في شيء واحد ترك فيها العطف لشدة الاتصال بخلاف هذه فإنه يجوز اختلاف فاعلها ومن تعلقت به ، وهذا هو الداعي لإعراب (التَّائِبُونَ) مبتدأ موصوفا بما بعده و (الْآمِرُونَ) خبره فكأنه قيل : الكاملون في أنفسهم المكملون لغيرهم وقدم الأول لأن المكمل لا يكون مكملا حتى يكون كاملا في نفسه ، وبهذا يتسق النظم أحسن اتساق من غير تكلف وهو وجه وجيه للعطف في البعض وترك العطف في الآخر ، خلا أن المأثور عن السلف كابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وغيره تفسير الحافظين لحدود الله بالقائمين على طاعته سبحانه وهو مخالف لما في هذا التوجيه لعل الأمر فيه سهل والله تعالى أعلم بمراده (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) أي هؤلاء الموصوفين بتلك الصفات الجليلة ، ووضع المؤمنين موضع ضمير هم للتنبيه على أن ملاك الأمر هو الإيمان وأن المؤمن الكامل من كان كذلك ، وحذف المبشر به إشارة إلى أنه أمر جليل لا يحيط به نطاق البيان (ما كانَ) أي ما صح في حكم الله عزوجل وحكمته وما استقام (لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) بالله تعالى على الوجه المأمور به (أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) به سبحانه (وَلَوْ كانُوا) أي المشركون (أُولِي قُرْبى) أي ذوي قرابة لهم ، وجواب (لَوْ) محذوف لدلالة ما قبله عليه ، والجملة معطوفة على جملة أخرى قبلها محذوفة حذفا مطردا أي لو لم يكونوا أولى قربى ولو كانوا كذلك (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ) أي للنبي صلىاللهعليهوسلم والمؤمنين (أَنَّهُمْ) أي المشركين (أَصْحابُ الْجَحِيمِ) بأن ماتوا على الكفر أو نزل الوحي بأنهم مطبوع على قلوبهم لا يؤمنون أصلا ، وفيه دليل على صحة الاستغفار لأحيائهم الذين لا قطع بالطبع على قلوبهم ، والمراد منه في حقهم طلب توفيقهم للإيمان ، وقيل : إنه يستلزم ذلك بطريق الاقتضاء فلا يقال : إنه لا فائدة في طلب المغفرة للكافر ، والآية على الصحيح نزلت في أبي طالب ، فقد أخرج أحمد ، وابن أبي شيبة ، والبخاري ، ومسلم ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في الدلائل. وآخرون عن المسيب بن حزن قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلىاللهعليهوسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال النبي عليه الصلاة والسلام : أي عم قل : لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب فجعل رسول الله صلىاللهعليهوسلم يعرضها عليه وأبو جهل وعبد الله يعاودانه بتلك المقالة فقال أبو طالب آخر ما كلمهم : هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول : لا إله إلا الله فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فنزلت (ما كانَ لِلنَّبِيِ) الآية.
واستبعد ذلك الحسين بن الفضل بأن موت أبي طالب قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين وهذه السورة من أواخر ما نزل بالمدينة. قال الواحدي : وهذا الاستبعاد مستبعد فأي بأس أن يقال : كان عليه الصلاة والسلام يستغفر لأبي طالب من ذلك الوقت إلى وقت نزول الآية فإن التشديد مع الكفار إنما ظهر في هذه السورة ، وذكر نحوا من هذا صاحب التقريب ، وعليه لا يراد بقوله : فنزلت في الخبر أن النزول كان عقيب القول بل يراد أن ذلك سبب النزول ، فالفاء فيه للسببية لا للتعقيب. واعتمد على هذا التوجيه كثير من جلة العلماء وهو توجيه وجيه ، خلا أنه يعكر عليه ما أخرجه ابن سعد وابن عساكر عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : أخبرت رسول الله صلىاللهعليهوسلم بموت أبي طالب فبكى فقال : «اذهب فغسله وكفنه وواره غفر الله له ورحمه ففعلت وجعل رسول الله صلىاللهعليهوسلم يستغفر له أياما ولا يخرج من بيته حتى نزل عليه جبريل عليه الصلاة والسلام بهذه الآية (ما كانَ لِلنَّبِيِ) إلخ» فإنه ظاهر في أن النزول قبل الهجرة لأن عدم الخروج من البيت فيه مغيا به ، اللهم إلا أن يقال بضعف الحديث لكن لم نر من تعرض له ، والأولى في الجواب عن أصل الاستبعاد أن يقال : إن كون هذه السورة من أواخر ما نزل باعتبار الغالب كما تقدم فلا ينافي نزول شيء منها في المدينة. والآية على هذا دليل على أن أبا طالب مات كافرا وهو المعروف من مذهب أهل السنة والجماعة.