قولهم : سلم فهو سليم ، وسعد فهو مسعود ، وقال أبو نصر عبد الرحيم القشيري : ورد سعده الله تعالى فهو مسعود. وأسعده الله تعالى فهو مسعد ، وما ألطف الإشارة في ـ شقوا وسعدوا ـ على قراءة البناء للفاعل في الأول والبناء للمفعول في الثاني ، فمن وجد ذلك فليحمد الله تعالى. ومن لم يجد فلا يلومنّ إلا نفسه (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) أي غير مقطوع عنهم ولا مخترم ، ومصدره الجذ ، وقد جاء جذذت. وجددت بالذال المعجمة والدال كما قال ابن قتيبة ، وبالمعجمة أكثر ، ونصب (عَطاءً) على المصدرية من معنى الجملة لأن قوله سبحانه : (فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها) يقتضي إعطاء وإنعاما فكأنهم قيل : يعطيهم إعطاء وهو إما اسم مصدر هو الإعطاء. أو مصدر بحذف الزوائد كقوله تعالى : (أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) [نوح : ١٧] ، وقيل : هو نصب على الحالية من المفعول المقدر للمشيئة. أو تمييز ، فإن نسبة مشيئة الخروج إلى الله تعالى تحتمل أن تكون على جهة عطاء مجذوذ ، وعلى جهة عطاء غير مجذوذ فهو رافع للإبهام عن النسبة ، ولعل النصب على المصدرية أولى وكأنه جيء بذلك اعتناء ومبالغة في التأبيد ودفعا لما يتوهم من ظاهر الاستثناء من الانقطاع ، وقيل : إن ذلك لبيان أن ثواب أهل الجنة ـ وهو إما نفس الدخول أو ما هو كاللازم البين له ـ لا ينقطع فيعلم منه أن الاستثناء ليس للدلالة على الانقطاع كما في العقاب بل للدلالة على ترادف نعم ورضوان من الله تعالى ؛ أو لبيان النقص من جانب المبدأ ولهذا فرق في النظم بين التأبيد من حيث تمم الأول بقوله سبحانه : (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) للدلالة على أنه ينعم بعض من يعذبه ويبقى غيره كما يشاء ويختار ؛ والثاني بقوله تعالى : (عَطاءً) إلخ بيانا لأن إحسانه لا ينقطع ، ومن الناس من تمسك بصدر الآية أنه لا يبقى في النار أحد ولم يقل بذلك في الجنة ، وتقوى مطلبه ذاك بما أخرجه ابن المنذر عن الحسن قال : قال عمر : لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج لكان لهم يوم يخرجون فيه ، وبما أخرج إسحاق بن راهويه عن أبي هريرة قال : سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد ، وقرأ (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا) الآية ، وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن إبراهيم قال : ما في القرآن آية أرجى لأهل النار من هذه الآية (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) قال : وقال ابن مسعود : ليأتين عليها زمان تصفق فيه أبوابها ، وأخرج ابن جرير عن الشعبي قال : جهنم أسرع الدارين عمرانا وأسرعهما خرابا إلى غير ذلك من الآثار.
وقد نص ابن الجوزي على وضع بعضها كخبر عن عبد الله بن عمرو بن العاص يأتي على جهنم يوم ما فيها من ابن آدم أحد تصفق أبوابها كأنها أبواب الموحدين ، وأول البعض بعضها ؛ ومر شيء من الكلام في ذلك ، وأنت تعلم أن خلود الكفار مما أجمع عليه المسلمون ولا عبرة بالمخالف ، والقواطع أكثر من أن تحصى ، ولا يقاوم واحدا منها كثير من هذه الأخبار ، ولا دليل في الآية على ما يقوله المخالف لما علمته من الوجوه فيها ولا حاجة إلى دعوى النسخ فيها كما روي عن السدي بل لا يكاد يصح القول بالنسخ في مثل ذلك ، هذا وقد ذكر أن في الآية صيغة الجمع مع التفريق والتقسيم أما الجمع ففي قوله تعالى : (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) فإن النفس كما تقرر عامة لكونها نكرة في سياق النفي ، وأما التفريق ففي قوله تعالى : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) وأما التقسيم ففي قوله سبحانه : (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا) إلخ ونظيرها في ذلك قول الشريف القيرواني :
لمختلفي الحاجات جمع ببابه |
|
فهذا له فن وهذا له فن |
فللخامل العليا وللمعدم الغنى |
|
وللمذنب العتبى وللخائف الأمن |
ومن هنا يعلم حال الفاءين فاء (فَمِنْهُمْ) وفاء (فَأَمَّا) إلخ ، قيل : وفي العدول عن فأما الشقي ففي النار خالدا فيها إلخ. وأما السعيد ـ أو المسعود ـ ففي الجنة خالدا فيها إلخ إلى ما في النظم الجليل إشارة إلى سبق هذه الشقاوة