تنزه ساحة التنزيل عن مثلها : كنت قد ظهر لي وجه جار على قواعد العربية عار من التكلف وهو أن (لَمَّا) هذه هي الجازمة حذف فعلها المجزوم لدلالة المعنى عليه كما حذفوه في قولهم : قاربت المدينة ولما يريدون ولما أدخلها ، والتقدير هنا وإن كلّا لما ينقص من جزاء عمله ويدل عليه ليوفينهم ربك أعمالهم ، وكنت أعتقد أني ما سبقت إلى ذلك حتى تحققت أن ابن الحاجب وفق لذلك فرأيت في كتاب التحرير نقلا عنه أنه قال : (لَمَّا) هذه هي الجازمة حذف فعلها للدلالة عليه ، وقد ثبت الحذف في قولهم : خرجت ولما ، وسافرت ولما ونحوه ، وهو سائغ فصيح فيكون التقدير لما يتركوا أو لما يهملوا ويدل عليه تفصيل المجموعين ومجازاتهم ، ثم قال : وما أعرف وجها أشبه من هذا وإن كانت النفوس تستبعده من جهة أن مثله لم يقع في القرآن انتهى ، ولا يخفى عليك أن الأولى أن يقدر لما يوفوا أعمالهم أي إلى الآن لم يوفوها وسيوفونها ، وإلى ذلك ذهب ابن هشام لما يلزم على التقديرات السابقة على ما هو المشهور في معنى لما أنهم سينقصون من جزاء أعمالهم وأنهم سيتركون ويهملون ، وذلك بمعزل عن أن يراد وهو ظاهر ، وهذا وجه النظر الذي عناه ابن هشام في قوله معترضا على ابن الحاجب : وفي هذا التقدير نظر.
وقال الجلبي : وجهه أن الدال على المحذوف سابق عليه بكثير مع أن ذلك المحذوف ليس من لفظ هذا الذي قيل : إنه دال عليه وليس بذاك ، ثم المرجح عند كثير من المفسرين ما ذهب إليه الفراء ، وقرأ نافع وابن كثير أن ولما بالتخفيف وخرجت هذه القراءة على أن أن عاملة وإن خففت اعتبارا للأصل في العمل وهو شبه الفعل ولا يضر زوال الشبه اللفظي ، وإلى ذلك ذهب البصريون ، وذكر أبو حيان أن مذهبهم جواز إعمالها إذا خففت لكن على قلة إلا مع المضمر فلا يجوز إلا إن ورد في شعر ، ونقل عن سيبويه منهم أنه قال : أخبرني الثقة أنه سمع بعض العرب يقول : إن عمرا لمنطلق.
وزعم بعض من النحويين أن المكسورة إذا خففت لا تعمل ، وتأول الآية بجعل (كُلًّا) منصوبا بفعل مقدر أي إن أرى كلّا مثلا وليس بشيء ، وجعل هذا في البحر مذهب الكوفيين ، وفي الارتشاف أن الكوفيين لا يجوزون تخفيف المكسورة لا مهملة ولا معملة ، وذكر بعضهم مثله وأن ما يعدّها البصريون مخففة يعدها الكوفيون نافية ، واستثنى منهم الكسائي فإنه وافق البصريين ومذهبهم في ذلك هو الحق ، و (كُلًّا) اسمها واللام هي الداخلة على خبر إن وما موصولة خبر إن ، والجملة القسمية وجوابها صلة ، وإلى هذا ذهب الفراء ، واختار الطبري في اللام مذهبه ، وفي ما كونها نكرة موصوفة ، والجملة صفتها أي وإن كلا لخلق أو لفريق موفى عمله ، واختار أبو علي في اللام ما اختاراه ؛ وجعل الجملة القسمية خبرا وما مزيدة بين اللامين وقد عهدت زيادتها في غير ما موضع ، وقرأ أبو بكر عن عاصم بتخفيف إن وتشديد لما ، وقرأ الكسائي ، وأبو عمرو بعكس ذلك وتخريج القراءتين لا يخفى على من أحاط خبرا في تخريج القراءتين قبل ، وقرأ أبي ، والحسن بخلاف عنه ، وأبان بن تغلب ، وأن بالتخفيف كل بالرفع لما بالتشديد ، وخرجت على أن إن نافية وكل مبتدأ والجملة القسمية وجوابها خبره ، و (لَمَّا) بمعنى إلّا أي ما كل إلّا أقسم والله ليوفينهم ، وأنكر أبو عبيدة مجيء (لَمَّا) بمعنى إلّا في كلام العرب ، وقال الفراء : إن جعلها هنا بمعنى إلّا وجه لا نعرفه ، وقد قالت العرب مع اليمين بالله : لما قمت عنا وإلّا قمت عنا ، وأما في غير ذلك فلم نسمع مجيئها بمعنى إلّا لا في نثر ولا في شعر ؛ ويلزم القائل أن يجوز قام الناس لما زيدا على معنى إلّا زيدا ولا التفات إلى إنكارهما ، والقراءة المتواترة في (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) [يس : ٣٢] و (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) [الطارق : ٤] تثبت ما أنكراه.
وقد نص الخليل ، وسيبويه ، والكسائي على مجيء ذلك ، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ ، وكون العرب