ويحتمل أنّه لم تكن تلك الأبواب المغلقة على الترتيب بابا فبابا بل كانت في جهات مختلفة كلها منافذ للمكان الذي كانا فيه فاستبقا إلى باب يخرج منه ، ونصب الباب على الاتساع لأن أصل استبق أن يتعدى بإلى لكن جاء كذلك على حد (وَإِذا كالُوهُمْ) [المطففين : ٣] (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً) [الأعراف : ١٥٥] ، وقيل : إنه ضمن الاستباق معنى الابتدار فعدى تعديته (وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ) يحتمل أن يكون معطوفا على (اسْتَبَقَا) ، ويحتمل أن يكون في موضع الحال كما قال أبو حيان أي وقد قدت ، والقدّ القطع والشق وأكثر استعماله فيما كان طولا وهو المراد هنا بناء على ما قيل : إنها جذبته من وراء فانخرق القميص إلى أسفله ، ويستعمل القط فيما كان عرضا ، وعلى هذا جاء ما قيل في وصف علي كرم الله تعالى وجهه : إنه كان إذا اعتلى قدّ وإذا اعترض قط ، وقيل ، القدّ هنا مطلق الشق ، ويؤيده ما نقل عن ابن عطية أنه قرأت فرقة ـ وقط ـ وقد وجد ذلك في مصحف المفضل بن حرب.
وعن يعقوب تخصيص القدّ بما كان في الجلد والثوب الصحيحين ، والقميص معروف ، وجمعه أقمصة ، وقمص ، وقمصان ، وإسناد القدّ بأي معنى كان إليها خاصة مع أن لقوة يوسف عليهالسلام أيضا دخلا فيه إما لأنها الجزء الأخير للعلة التامة ، وإما للإيذان بمبالغتها في منعه عن الخروج وبذل مجهودها في ذلك لفوت المحبوب أو لخوف الافتضاح (وَأَلْفَيا) أي وجدا ، وبذلك قرأ عبد الله (سَيِّدَها) أي زوجها وهو فيعل (١) من ساد يسود ، وشاع إطلاقه على المالك وعلى الرئيس ، وكانت المرأة إذ ذاك على ما قيل : تقول لزوجها سيدي ، ولذا لم يقل سيدهما ، وفي البحر إنما لم يضف إليهما لأنه لم يكن مالكا ليوسف حقيقة لحريته (لَدَى الْبابِ) أي عند الباب البراني ، قيل : وجداه يريد أن يدخل مع ابن عم لها (قالَتْ) استئناف مبني على سؤال سائل يقول : فما ذا كان حين ألفيا السيد عند الباب ، فقيل ، فقالت : (ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً) من الزنا ونحوه.
(إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) الظاهر أن (ما) نافية ، و (جَزاءُ) مبتدأ ، و (مِنْ) موصولة أو موصوفة مضاف إليه ، والمصدر المؤول خبر ، و (أَوْ) للتنويع خبر المبتدأ وما بعد معطوف على ذلك المصدر أي ليس جزاؤه إلّا السجن أو العذاب الأليم ، والمراد به على ما قيل : الضرب بالسوط ، وعن ابن عباس أنه القيد ، وجوز أن تكون (ما) استفهامية ـ فجزاء ـ مبتدأ أو خبر أي أي شيء جزاؤه غير ذلك أو ذلك ، ولقد أتت في تلك الحالة التي يدهش فيها الفطن اللوذعي حيث شاهدها زوجها على تلك الهيئة بحيلة جمعت فيها غرضيها وهما تبرئة ساحتها مما يلوح من ظاهر الحال ، واستنزال يوسف عليهالسلام عن رأيه في استعصائه عليها وعدم مواتاته لها على مرادها بإلقاء الرعب في قلبه من مكرها طمعا في مواقعته لها مكرها عند يأسها عن ذلك مختارا كما قالت : (لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ) [يوسف : ٣٢] ثم إنها جعلت صدور الإرادة المذكورة عن يوسف عليهالسلام أمرا محققا مفروغا عنه غنيا عن الإخبار بوقوعه ، وإن ما هي عليه من الأفاعيل لأجل تحقيق جزائها ، ولم تصرح بالاسم بل أتت بلفظ عام تهويلا للأمر ومبالغة في التخويف كأن ذلك قانون مطرد في حق كل أحد كائنا من كان ، وذكرت نفسها بعنوان أهلية العزيز إعظاما للخطب وإغراء له على تحقيق ما يتوخاه بحكم الغضب والحمية كذا قرّره غير واحد.
وذكر الإمام في تفسيره ما فيه نوع مخالفة لذلك حيث قال : إن في الآية لطائف : أحدها أن حبها الشديد ليوسف عليهالسلام حملها على رعاية دقيقتين في هذا الموضع وذلك لأنها بدأت بذكر السجن وأخرت ذكر العذاب لأن المحب لا يسعى في إيلام المحبوب ، وأيضا إنها لم تذكر أن يوسف عليهالسلام يحب أن يقابل بأحد هذين
__________________
(١) وهذا البناء مختص بالمعتل وشذ في غيره ا ه منه.