وانتفاء التدبر بما يشاهدونه من الدلائل البينات إلا كالبهائم التي هي مثل في الغفلة وعلم في الضلالة (بَلْ هُمْ أَضَلُ) منها (سَبِيلاً) لما أنها تنقاد لصاحبها الذي يتعهدها وتعرف من يحسن إليها ومن يسيء إليها وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها وتهتدي لمراعيها ومشاربها وتأوي إلى معاطنها ومرابضها ، وهؤلاء لا ينقادون لربهم سبحانه وخالقهم ورازقهم ولا يعرفون إحسانه تعالى إليهم من إساءة الشيطان المزين لهم اتباع الشهوات الذي هو عدو مبين ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ولا يتقون العقاب الذي هو أشد المضار والمهالك ولا يهتدون للحق الذي هو المشرع الهني والمورد العذب الروي ، ولأنها إن لم تعتقد حقا مستتبعا لاكتساب الخير لم تعتقد باطلا مستوجبا لاقتراف الشر بخلاف هؤلاء حيث مهدوا قواعد الباطل وفرعوا عليها أحكام الشرور ولأن أحكام جهالتها وضلالتها مقصورة على أنفسها لا تتعدى إلى أحد وجهالة هؤلاء مؤدية إلى ثوران الفتنة والفساد وصد الناس عن سنن السداد وهيجان الهرج والمرج فيما بين العباد ولأنها غير معطلة لقوة من القوى المودعة فيها بل صارفة لها إلى ما خلقت له فلا تقصير من قبلها في طلب الكمال وأما هؤلاء فهم معطلون لقواهم العقلية مضيعون للفطرة الأصلية التي فطر الناس عليها. واستدل بالآية على أن البهائم لا تعلم ربها عزوجل ، ومن ذهب إلى أنها تعلمه سبحانه وتسبحه كما هو مذهب الصوفية. وجماعة من الناس قال : إن هذا خارج مخرج الظاهر ، وقيل : المراد إن هم إلا كالأنعام في عدم الانتفاع بالآيات القرآنية والدلائل الأنفسية والآفاقية فإن الأنعام كذلك والعلم بالله تعالى الحاصل لها ليس استدلاليا بل هو فطري ، وكونهم أضل سبيلا من الأنعام من حيث إنها رزقت علما بربها تعالى فهي تسبحه عزوجل به وهؤلاء لم يرزقوا ذلك فهم في غاية الضلال.
وقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) إلخ بيان لبعض دلائل التوحيد إثر بيان جهالة المعرضين عنها وضلالهم ، والخطاب لرسول الله صلىاللهعليهوسلم والهمزة للتقرير والرؤية بصرية لأنها التي تتعدى بإلى ، وفي الكلام مضاف مقدر حذف وأقيم المضاف إليه مقامه أي ألم تنظر إلى صنع ربك لأنه ليس المقصود رؤية ذات الله عزوجل ، وكون ـ إلى ـ اسما واحدا لآلاء وهي النعم بعيد جدا ، وجوز أن تكون علمية وليس هناك مضاف مقدر وتعديتها بإلى لتضمين معنى الانتهاء أي ألم ينته علمك إلى أن ربك كيف مد الظل والأول أولى.
وذكر بعض الأجلة أنه يحتمل أن يكون حق التعبير ألم تر إلى الظل كيف مده ربك فعدل عنه إلى ما في النظم الجليل إشعارا بأن المعقول المفهوم من هذا الكلام لوضوح برهانه وهو دلالة حدوثه وتصرفه على الوجه النافع بأسباب ممكنة على أن ذلك فعل الصانع الحكيم كالمشاهد المرئي فكيف بالمحسوس منه ، وقال الفاضل الطيبي : لو قيل ألم تر إلى الظل كيف مده ربك كان الانتقال من الأثر إلى المؤثر والذي عليه التلاوة كان عكسه والمقام يقتضيه لأن الكلام في تقريع القوم وتجهيلهم في اتخاذهم الهوى إلها مع وضوح هذه الدلائل ولذلك جعل ما يدل على ذاته تعالى مقدما على أفعاله في سائر آياته (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ) [يونس : ٦٧ ، الفرقان : ٤٧] و (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ) [الفرقان : ٤٨ ، فاطر : ٩] و (لَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا) [الفرقان : ٥١] وروى السلمي في الحقائق عن بعضهم مخاطبة العام (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) [الغاشية : ١٧] ومخاطبة الخاص (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ) انتهى ، وفي الإرشاد لعل توجيه الرؤية إليه سبحانه مع أن المراد تقرير رؤيته عليه الصلاة والسلام لكيفية مد الظل للتنبيه على أن نظره عليه الصلاة والسلام غير مقصور على ما يطالعه من الآثار والصنائع بل مطمح أنظاره صلىاللهعليهوسلم معرفة شئون الصانع المجيد جل جلاله ولعل هذا هو سر ما روي عن السلمي ، وقيل : إن التعبير المذكور للإشعار بأن المقصود العلم بالرب علما يشبه الرؤية ، ونقل الطبرسي عن الزجاج أنه فسر الرؤية بالعلم. وذكر أن الكلام من باب القلب ،