والرحمة دلالة على أنهم لا ينفع فيهم الاحتشاد وأنهم يغمطون مثل هذه النعم ويغفلون عن عظمة موجدها سبحانه وجعلوا كالأنعام وأضل وختم بأنه ليس لهم مراد إلا كفور نعمته تعالى ، قيل : (وَلَوْ شِئْنا) على معنى أنا عظمناك بهذا الأمر لتستقل بأعبائه وتحوز ما ادخر لك من جنس جزائه فعليك بالمجاهدة والمصابرة ولا عليك من تلقيهم الدعوة بالإباء والمشاجرة وبولغ فيه فجعل حرصه صلىاللهعليهوسلم على إيمان هؤلاء المطبوع على قلوبهم طاعة لهم ، وقيل : فلا تطعهم ، ومدار السورة على ما ذكره الطيبي على كونه صلّى الله تعالى عليه وسلّم مبعوثا على الناس كافة ينذرهم ما بين أيديهم وما خلفهم ولهذا جعل براعة استهلالها (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) [الفرقان : ١] والآية على ما سمعت متعلقة بقوله تعالى : (أَرَأَيْتَ) إلى آخر الآيات ، وفيها من التنويه بشأنه عليه الصلاة والسلام ما فيها وليست مسوقة للتأديب كما وهم. وقيل : هي متعلقة بما عند على معنى ولو شئنا لقسمنا النذير بينهم ، كما قسمنا المطر بينهم ولكنا نفعل ما هو إلا نفع لهم في دينهم ودنياهم فبعثناك إليهم كافة فلا تطع إلخ ، وفيه من الدلالة على قصور النظر ما فيه.
هذا وجوز أن يكون ضمير (بِهِ) عائدا على ترك طاعتهم المفهوم من النهي ولعل الباء حينئذ للملابسة والمعنى وجاهدهم بما ذكر من أحكام القرآن الكريم ملابسا ترك طاعتهم كأنه قيل : وجاهدهم بالشدة والعنف لا بالملاءمة والمداراة كما في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) [التوبة : ٧٣ ، التحريم : ٩] وإلا ورد عليه أن مجرد ترك الطاعة بتحقيق بلا دعوة أصلا وليس فيه شائبة الجهاد فضلا عن الجهاد الكبير ، وجوز أيضا أن يكون لما دل عليه قوله عزوجل (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) من كونه صلّى الله تعالى عليه وسلم نذير كافة القرى لأنه لو بعث في كل قرية نذيرا لوجب على كل نذير مجاهدة قريته فاجتمعت على رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم تلك المجاهدات كلها فكبر من أجل ذلك جهاده وعظم فقيل له عليه الصلاة والسلام : وجاهدهم بسبب كونك نذير كافة القرى جهادا كبيرا جامعا لكل مجاهدة. وتعقب بأن بيان سبب كبر المجاهدة بحسب الكمية ليس فيه مزيد فائدة فإنه بين بنفسه وإنما اللائق بالمقام بيان سبب كبرها وعظمها في الكيفية ، وجوز أبو حيان أن يكون الضمير للسيف.
وأنت تعلم أن السورة مكية ولم يشرع في مكة الجهاد بالسيف ، ومع هذا لا يخفى ما فيه ، ويستدل بالآية على الوجه المأثور على عظم جهاد العلماء لأعداء الدين بما يوردون عليهم من الأدلة وأوفرهم حظا المجاهدون بالقرآن منهم (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) أي أرسلهما في مجاريهما كما يرسل الخيل في المرج كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، ويقال في هذا أمرج أيضا على ما قيل إلا أن مرج لغة الحجاز وأمرج لغة نجد.
وأصل المرج كما قال الراغب : الخلط ، ويقال : مرج أمرهم أي اختلط ، وسمي المرعى مرجا لاختلاط النبات فيه ، والمراد بالبحرين الماء الكثير العذب والماء الكثير الملح من غير تخصيص ببحرين معينين ، وهذا رجوع إلى ما تقدم من ذكر الأدلة ، وقوله تعالى : (هذا عَذْبٌ فُراتٌ) إلخ أي شديد العذوبة ووزنه فعال من فرته وهو مقلوب من رفته إذا كسره لأنه يكسر سورة العطش ويقمعها ، وقيل : هو البارد كما في مجمع البيان إما استئناف أو حال بتقدير القول أي يقال فيهما هذا عذب فرات (وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) وقيل : هي حال من غير تقدير قول على معنى مرج البحرين مختلفين عذوبة شديدة وملوحة كذلك ، واسم الإشارة يغني غناء الضمير ، والأجاج شديد الملوحة كما أشرنا إليه أطلق عليه لأن شربه يزيد أجيج العطش ، وقال الراغب : هو شديد الملوحة والحرارة من أجيج النار انتهى ، وقيل : هو المر وحكاه الطبرسي عن قتادة ، وقيل : الحار فهو يقابل الفرات عند من فسره بالبارد.