وقرأ طلحة بن مصرف وقتيبة عن الكسائي «ملح» بفتح الميم وكسر اللام هنا وكذا في فاطر ، قال أبو حاتم : وهذا منكر في القراءة ، وقال أبو الفتح : أراد مالحا فخفف بحذف الألف كما قيل برد في بارد في قوله :
أصبح قلبي صردا |
|
لا يشتهي أن يردا |
إلا عرادا عردا |
|
وصليانا بردا |
وعكنا ملتبدا وقيل : مخفف مليح لأنه ورد بمعنى مالح ، وقال أبو الفضل الرازي في كتاب اللوامح : هي لغة شاذة قليلة فليس مخففا من شيء ، نعم هو كملح في قراءة الجمهور بمعنى مالح ، والأفصح أن يقال في وصف الماء : ماء ملح دون ماء مالح وإن كان صحيحا كما نقل الأزهري ذلك عن الكسائي ، وقد اعترف أيضا بصحته ثعلب ، وقال الخفاجي : الصحيح أنه مسموع من العرب كما أثبته أهل اللغة وأنشدوا لإثباته شواهد كثيرة وعليه فمن خطأ الإمام أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه بقوله : ماء مالح فقد أخطأ جاهلا بقدر هذا الإمام (وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً) أي حاجزا وهو لفظ عربي ، وقيل : أصله برزه فعرب ، والمراد بهذا الحاجز كما أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن ما يحول بينهما من الأرض كالأرض الحائلة بين دجلة ويقال لها بحر لعظمها ولشيوع إطلاق البحر على النهر العظيم صار حقيقة فيه أيضا فلا إشكال في التثنية ، وإن أبيت صيرورته حقيقة فاعتبار التغليب يرفع الإشكال وبين البحر الكبير ، والمراد حيلولتها في مجاريها وإلا فهي تنتهي إلى البحر وكذا سائر الأنهار العظام ، ودلالة هذا الجعل على كمال قدرته عزوجل كونه على خلاف مقتضى الطبيعة فإن مقتضى طبيعة الماء أن يكون متضام الأجزاء مجتمعا غامرا للأرض محيطا بها من جميع جهاتها إحاطة الهواء به ومقتضى طبيعة الأرض أن تكون متضامة الأجزاء أيضا لا غور فيها ولا نجد مغمورة بالماء واقعة في جوفه كمركز الدائرة كما قرر ذلك الفلاسفة وذكروا في سبب انكشاف ما انكشف من الأرض ووقوع الأغوار والأنجاد فيها ما لا يخلو عن قيل وقال ، و (بَيْنَهُما) ظرف لجعل ، ويجوز أن يكون حالا من (بَرْزَخاً) ، والظاهر أن تنوين (بَرْزَخاً) للتعظيم أي وجعل بينهما برزخا عظيما حيث إنه على كثرة مرور الدهور لا يتخلله ماء أحد البحرين حتى يصل إلى الآخر فيغير طعمه (وَحِجْراً مَحْجُوراً) أي وتنافرا مفرطا كان كلّا منهما يتعوذ من الآخر بتلك المقالة ، والمراد لزوم كل منهما لصفته من العذوبة والملوحة فلا ينقلب البحر العذب ملحا في مكانه ولا البحر الملح عذبا في مكانه وذلك من كمال قدرته تعالى وبالغ حكمته عزوجل فإن العذوبة والملوحة ليستا بسبب طبيعة الأرض ولا بسبب طبيعة الماء وإلا لكان الكل عذبا أو الكل ملحا ، وذكر في حكمة جعل البحر الكبير ملحا أن لا ينتن بطول المكث وتقادم الدهور ؛ قيل : وهو السر في جعل دمع العين ملحا ، وفيه حكم أخرى الله تعالى أعلم بها.
والظاهر إن (حِجْراً) عطف على (بَرْزَخاً) أي وجعل بينهما هذه الكلمة ، والمراد بذلك ما سمعت آنفا وهو من أبلغ الكلام وأعذبه ، وقيل : هو منصوب بقول مقدر أي ويقولان حجرا محجور ، وعن الحسن أن المراد من الحجر ما حجر بينهما من الأرض وتقدم تفسيره البرزخ بنحو ذلك ، وكان الجمع بينهما حينئذ لزيادة المبالغة في أمر الحاجز وما قدمنا أولى وأبعد مغزى ، وقيل : المراد بالبرزخ حاجز من قدرته عزوجل غير مرئي وبقوله سبحانه : (حِجْراً مَحْجُوراً) التميز التام وعدم الاختلاط ، وأصله كلام يقوله المستعيذ لما يخافه كما تقدم تفصيله ، وحاصل معنى الآية أنه تعالى هو الذي جعل البحرين مختلطين في مرأى العين ومنفصلين في التحقيق بقدرته عزوجل أكمل انفصال بحيث لا يختلط العذب بالملح ولا الملح بالعذب ولا يتغير طعم كل منهما بالآخر أصلا.