وأخرج جماعة عن مجاهد والحسن وعكرمة وأبي مالك وعامر أنه شعاع الشمس في الكوة وكأنهم أرادوا ما يرى فيه من الغبار كما هو المشهور عند اللغويين ، قال الراغب : الهباء دقاق التراب وما انبثّ في الهواء فلا يبدو إلا في أثناء ضوء الشمس في الكوة ويقال : هبا الغبار يهبو إذا ثار وسطع ، ووصف بقوله تعالى : (مَنْثُوراً) مبالغة في إلغاء أعمالهم فإن الهباء تراه منتظما مع الضوء فإذا حركته الريح تناثر وذهب كل مذهب فلم يكف أن شبه أعمالهم بالهباء حتى جعل متناثرا لا يمكن جمعه والانتفاع به أصلا ، ومثل هذا الإرداف يسمى في البديع بالتتميم والإيغال ، ومنه قول الخنساء :
أغر أبلج تأتمّ الهداة به |
|
كأنه علم في رأسه نار |
حيث لم يكفها أن جعلته علما في الهداية حتى جعلته في رأسه نار ، وقيل : وصف بالمنثور أي المتفرق لما أن أغراضهم في أعمالهم متفرقة فيكون جعل أعمالهم هباء متفرقا جزاء من جنس العمل ، وجوز أن يكون مفعولا بعد مفعول لجعل وهو مراد من قال : مفعولا ثالثا لها على معنى جعلناه جامعا لحقارة الهباء والتناثر ، ونظير ذلك قوله تعالى : (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) [البقرة : ٦٥ ، الأعراف : ١٦٦] أي جامعين للمسخ والخسء ، وفيه خلاف ابن درستويه حيث لم يجوز أن يكون لكان خبر إن وقياس قوله : أن يمنع أن يكون لجعل مفعول ثالث ، ومع هذا الظاهر الوصفية ، وفي الكلام استعارة تمثيلية حيث مثلت حال هؤلاء الكفرة وحال أعمالهم التي عملوها في كفرهم بحال قوم خالفوا سلطانهم واستعصوا عليه فقدم إلى أشيائهم وقصد إلى ما تحت أيديهم فأفسدها وجعلها شذر مذر ولم يترك لها من عين ولا أثر ، واللفظ المستعار وقع فيه استعمال ـ قدم ـ بمعنى عمد وقصد لاشتهاره فيه وإن كان مجازا كما يشير إليه كلام الأساس ، ويسمى القصد الموصل إلى المقصد قدوما لأنه مقدمته ، وتضمن التمثيل تشبيه أعمالهم المحبطة بالهباء المنثور بدون استعارة ، فلا إشكال على ما قيل ، والكلام في ذلك طويل فليطلب من محله. وجعل بعضهم القدوم في حقه عزوجل عبارة عن حكمه ، وقيل : الكلام على حذف مضاف أي قدم ملائكتنا ، وأسند ذلك إليه عزوجل لأنه عن أمره سبحانه ، ونقل عن بعض السلف أنه لا يؤول في قوله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ) [الفجر : ٢٢] وقوله سبحانه : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) [البقرة : ٢١٠] على ما هو عادتهم في الصفات المتشابهة ، وقياس ذلك عدم التأويل في الآية ، ولعله من هنا قيل : إن تأويل الزمخشري لها بناء على معتقده من إنكار الصفات ، والقلب إلى التأويل فيها أميل.
وأنت إن لم تؤول القدوم فلا بد لك أن تؤول جعلها هباء منثورا بإظهار بطلانها بالكلية وإلغائها عن درجة الاعتبار بوجه من الوجوه ، ولا يأبى ذلك السلف (أَصْحابُ الْجَنَّةِ) هم المؤمنون المشار إليهم في قوله تعالى : (قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) [الفرقان : ١٥] (يَوْمَئِذٍ) أي يوم إذ يكون ما ذكر من القدوم إلى أعمالهم وجعلها هباء منثورا ، أو من هذا وعدم التبشير ، وقولهم : حجرا محجورا (خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا) المستقر المكان الذي يستقر فيه في أكثر الأوقات للتجالس والتحادث (وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) المقيل المكان الذي يؤوي إليه للاسترواح إلى الأزواج والتمتع بمغازلتهن ، سمي بذلك لأن التمتع به يكون وقت القيلولة غالبا ، وقيل : هو في الأصل مكان القيلولة ـ وهي النوم نصف النهار ـ ونقل من ذلك إلى مكان التمتع بالأزواج لأنه يشبهه في كون كل منهما محل خلوة واستراحة فهو استعارة ، وقيل : أريد به مكان الاسترواح مطلقا استعمالا للمقيد في المطلق فهو مجاز مرسل ، وإنما لم يبق على الأصل لما أنه لا نوم في الجنة أصلا.