الذي يأتيني فله درهم ، وفيه أنه خلاف الظاهر ولا قرينة على إرادته سوى عدم صحة الجزائية ، وضعف التقدير الأول بالفصل بين ما فيه الحذف ودليل المحذوف مع خفاء ربط الجملة بما قبلها عليه ، ولا ينبغي أن تكون من شرطية جوابها فرآه لما في ذلك من الركاكة الصناعية فإن الماضي في الجواب لا يقترن بالفاء بدون قد مع خفاء أمر إنكار رؤية سوء العمل حسنا بعد التزيين وتفريعه على ما قبله من الحكمين ، وكون الإنكار لما أن المزين هو الشيطان العدو والتفريع على قوله تعالى : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) لا يخفى حاله فالوجه المعول عليه ما تقدم جعل عليه ، وقوله تعالى :
(فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) تعليلا لسببية التزيين لرؤية القبيح حسنا ، وفيه دفع استبعاد أن يرى الشخص القبيح حسنا بتزيين العدو إياه ببيان أن ذلك بمشيئة الله عزوجل التابعة للعلم المتعلق بالأشياء على ما هي عليه في نفس الأمر وإيذان بأن أولئك الكفرة الذين زين لهم سوء عملهم فرأوه حسنا ممن شاء الله تعالى ضلالهم ، وقوله تعالى : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) تفريع عليه أي إذا كان الأمر كذلك فلا تذهب نفسك إلخ ، وذكر المولى سعدي جلبي أن الهمزة في (أَفَمَنْ) على التقدير الأول من التقديرين اللذين نقلا عن الزجاج لإنكار ذهاب نفسه صلىاللهعليهوسلم عليه عليهم حسرة والفاء في قوله سبحانه (فَإِنَّ اللهَ) إلخ تعليل لما يفهمه النظم الجليل من أنه لا جدوى للتحسر ، وفي الكشف أنه تعالى لما ذكر الفريقين الذين كفروا والذين آمنوا قال سبحانه لنبيه صلىاللهعليهوسلم (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) يعني أفمن زين له سوء عمله من هذين الفريقين كمن لم يزين له فكأن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال لا فقال تعالى (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) ويفهم من كلام الطيبي أن فاء (فَلا تَذْهَبْ) جزائية وفاء (فَإِنَّ اللهَ) للتعليل وأن الجملة مقدمة من تأخير فقد قال : إنه صلىاللهعليهوسلم كان حريصا على إيمان القوم وأن يسلك الضالين في زمرة المهتدي فقيل له عليه الصلاة والسّلام على سبيل الإنكار لذلك : أفمن زين له سوء عمله من هذين الفريقين كمن لم يزين له فلا بدّ أن يقر صلىاللهعليهوسلم بالنفي ويقول لا فحينئذ يقال له فإذا كان كذلك فلا تذهب نفسك عليهم حسرات فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فقدم وأخر انتهى وفيه نظر ، وفي الآيات على ما يقتضيه ظاهر كلام الزمخشري لفّ ونشر وبذلك صرح الطيبي ثم قال : الأحسن أن تجعل الآيات من الجمع والتقسيم والتفريق فقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) جمع الفريقين معا في حكم نداء الناس وجمع ما لهما من الثواب والعقاب في حكم الوعد وحذرهما معا عن الغرور بالدنيا والشيطان ، وأما التقسيم فهو قوله تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) وأما التفريق فقوله تعالى : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) لأنه فرق فيه وبين التفاوت بين الفريقين كما قال الزمخشري أفمن زين له سوء عمله من هذين الفريقين كمن لم يزين له ، وفرع على ذلك ظهور أن الفاء في (أَفَمَنْ) للتعقيب والهمزة الداخلة بين المعطوف والمعطوف عليه لإنكار المساواة وتقرير البون العظيم بين الفريقين وأن المختار من أوجه ذكرها السكاكي في المفتاح تقدير كمن هداه الله تعالى فحذف لدلالة (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) ولهم في نظم الآيات الكريمة كلام طويل غير ما ذكرناه من أراده فليتبع كتب التفاسير والعربية ، ولعل فيما ذكرناه مقنعا لمن أوتي ذهنا سليما وفهما مستقيما.
والحسرات جمع حسرة وهي الغم على ما فاته والندم عليه كأنه انحسر عنه ما حمله على ما ارتكبه أو انحسر قواه من فرط غم أو أدركه إعياء عن تدارك ما فرط منه ، وانتصبت على أنها مفعول من أجله أي فلا تهلك نفسك للحسرات ، والجمع مع أن الحسرة في الأصل مصدر صادق على القليل والكثير للدلالة على تضاعف اغتمامه عليه الصلاة والسّلام على أحوالهم أو على كثرة قبائح أعمالهم الموجبة للتأسف والتحسر ، و (عَلَيْهِمْ) صلة (تَذْهَبْ)