بعلته أعني الوجود الحق كان معدوما لأن ظهوره إنما نشأ من العلة ولولاها لم يك شيئا مذكورا ، وقول العلامة البيضاوي : لو استقريت جهات الموجودات وتفحصت وجوهها وجدتها بأسرها فانية في حد ذاتها إلا وجه الله تعالى أي الوجه الذي يلي جهته سبحانه محمول على ذلك عند بعض المحققين وإن كان قد فسر الوجه قبل بالذات ، وللعلماء في تقرير كلامه اختلاف ، فمنهم من يجعل قوله : لو استقريت إلخ تتمة لتفسيره الأول ، ومنهم من يجعله وجها آخر ، وهو على الأول أخذ بالحاصل ، وعلى الثاني قيل : يحتمل التطبيق على كل من مذاهب في الممكنات الموجودة ، وذلك أنها إما موجودة حقيقة بمعنى أنها متصفة بالوجود اتصافا حقيقيا بأن يكون الوجود زائدا عليها قائما بها ، وهو مذهب جمهور الحكماء والمتكلمين ، وإما موجودة مجازا وليس لها اتصاف حقيقي بالوجود بأن يكون الوجود قائما بها بل إطلاق الموجود عليها كإطلاق الشمس على الماء ، وإليه ذهب المتألهون من الحكماء والمحققون من الصوفية إلا أن ذوق المتألهين أن علاقة المجاز أن لها نسبة مخصوصة إلى حضرة الوجود الواجبي على وجوه مختلفة وأنحاء شتى ، والطرق إلى الله تعالى بعدد أنفاس الخلائق ، فالوجود عندهم جزئي حقيقي قائم بذاته لا يتصور عروضه لشيء ولا قيامه به ومعنى كون الممكن موجودا أنه مظهر له ومجلى ينجلي فيه نوره ـ فالله نور السماوات والأرض ـ والممكنات بمنزلة المرايا المختلفة التي تنعكس إليها أشعة الشمس وينصبغ كل منها بصبغ يناسبه ، ومذاق المحققين من الصوفية أن علاقة المجاز أنها بمنزلة صفات قائمة بذات الواجب سبحانه إذ ليس في الوجود على مذاقهم ذوات متعددة بعضها واجب وبعضها ممكن بل ذات واحدة لها صفات متكثرة وشئونات متعددة وتجليات متجددة (قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ) [الأنعام : ٩١] والمشهور أنه لا فرق بين المذاقين.
ووجه التطبيق على الأول أن يقال : المراد من الوجه الذي يلي جهته تعالى هو الوجوب بالغير إذ الممكن ـ وإن كان موجودا حقيقة عند الجمهور ـ لكن وجوده مستفاد من الواجب بالذات ، وجهة الاستفادة ليست هي الذات ولا شيئا آخر من الجهات والوجوه كالإمكان والمعلولية والجوهرية والعرضية والبساطة والتركيب وسائر الأمور العامة لأن كلا منها جهته الخسة ، ومقتضى الفطرة الإمكانية البعيدة بمراحل عن الوجوب الذاتي المنافية له ، وإنما جهة الشرف القريبة المناسبة للوجوب الذاتي جهة الوجوب بالغير فهو وجه يلي جهة الواجب ويناسبه في كونه وجوبا وإن كان بالغير ، ولذا يعقبه فيضان الوجود ، ولذا تسمعهم يقولون : الممكن ما لم يجب لو يوجد.
ووجه التطبيق على الثاني أن يقال : الوجه الذي يلي جهته تعالى هو تلك النسبة المخصوصة المصححة لإطلاق لفظ الموجود عليها ولو مجازا ، فالمعنى (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) معدوم لا يصح أن يطلق لفظ الموجود عليه ولو مجازا إلا باعتبار الوجه الذي يلي جهته تعالى أي النسبة المخصوصة إلى حضرته تعالى وهي كونه مظهرا له سبحانه ، ووجه التطبيق على الثالث أن يقال : المراد بالوجه الذي يلي جهته تعالى كونها شئونات واعتبارات له تعالى. فالمعنى (كُلُّ مَنْ عَلَيْها) معدوم من جميع الوجوه والاعتبارات إلا من الوجه الذي يلي جهته سبحانه والاعتبار الذي يحصل مقيسا إليه عزوجل ، وهو كونه شأنا من شئونه واعتبارا من اعتباراته جل شأنه فتأمل مستعينا بالله عزوجل.
(ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) أي يجعله الموحدون عن التشبيه بخلقه ويثبتون له ما يليق بشأنه تعالى شأنه فهذا راجع إلى ما له سبحانه من التعظيم في قلوب من عرفه عزوجل أو الذي يقال في شأنه : ما أجلك وما أكرمك أي هو سبحانه من يستحق أن يقال في شأنه ذلك قيل أو لم يقل فهو راجع إلى ما له تعالى من الكمال في نفسه باعتبار قصور الإدراك عن شأوه ، أو من عنده الجلال والإكرام للموحدين فهو راجع إلى الفعل أي يجل الموحدين ويكرمهم ، وفسر