شيء مما ذكر ، وقصارى ما تدل الآية عليه تقدم مجموع تبويء الأنصار وإيمانهم على تبويء المهاجرين وإيمانهم ، ويكفي في تقدم المجموع تقدم بعض أجزائه وهو هاهنا تبوءوا الدار ، وتعقب بمنع الكفاية ولو سلمت لصلح أن يقال : بتقدم تبويء المهاجرين وإيمانهم على تبويء الأنصار وإيمانهم لتقدم إيمان المهاجرين (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) في موضع الحال من الموصول ، وقيل : استئناف ، والكلام قيل : كناية عن مواساتهم المهاجرين وعدم الاستثقال والتبرم منهم إذا احتاجوا إليهم ، وقيل : على ظاهره أي يحبون المهاجر إليهم من حيث مهاجرته إليهم لحبهم الإيمان (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ) أي ولا يعلمون في أنفسهم.
(حاجَةً) أي طلب محتاج إليه (مِمَّا أُوتُوا) أي مما أعطي المهاجرون من الفيء وغيره ، وحاصله أن نفوسهم لم تتبع ما أعطي المهاجرون ولم تطمح إلى شيء منه تحتاج إليه ، فالوجدان إدراك علمي وكونه في الصدر من باب المجاز ، ـ والحاجة ـ بمعنى المحتاج إليه ، وهو استعمال شائع يقال : خذ منه حاجتك وأعطاه من ماله حاجته ، و (مِنْ) تبعيضية ، وجوز كونها بيانية والكلام على حذف مضاف وهو طلب ، وفيه فائدة جليلة كأنهم لم يتصوروا ذلك ولا مرّ في خاطرهم أن ذلك محتاج إليه حتى تطمح إليه النفس.
ويجوز أن يكون المعنى ـ لا يجدون في أنفسهم ما يحصل عليه الحاجة كالحزازة والغيظ والحسد والغبطة لأجل ما أعطي المهاجرون ـ على أن الحاجة مجاز عما يتسبب عنها ، قيل : على أنه كناية عما ذكر لأنه لا ينفك عن الحاجة فأطلق اسم اللازم على الملزوم ، وما تقدم أولى ، وقول بعضهم : أي أثر حاجة تقدير معنى لا إعراب ، و (مِنْ) في قوله تعالى : (مِمَّا أُوتُوا) تعليلية (وَيُؤْثِرُونَ) أي يقدمون المهاجرين (عَلى أَنْفُسِهِمْ) في كل شيء من الطيبات حتى أن من كان عنده امرأتان كان ينزل عن إحداهما ويزوجها واحدا منهم ، ويجوز أن لا يعتبر مفعول ـ يؤثرون ـ خصوص المهاجرين ، أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن أبي هريرة قال : أتى رجل رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : يا رسول الله أصابني الجهد فأرسل إليه نسائه فلم يجد عندهن شيئا فقال عليه الصلاة والسلام : «ألا رجل يضيف هذا الرجل الليلة رحمهالله؟ فقال رجل من الأنصار ـ وفي رواية ـ فقال أبو طلحة : أنا يا رسول الله فذهب به إلى أهله فقال لامرأته : أكرمي ضيف رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم قالت : والله ما عندي إلا قوت الصبية قال : إذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالي فأطفئي السراج ونطوي الليلة لضيف رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم ففعلت ثم غدا الضيف على رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فقال : لقد عجب الله الليلة من فلان وفلانة وأنزل الله تعالى فيهما (وَيُؤْثِرُونَ)» إلخ.
وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ، قال : أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم رأس شاة فقال : إن أخي فلانا وعياله أحوج إلى هذا منا فبعث به إليه فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداوله أهل سبعة أبيات حتى رجع إلى الأول فنزلت (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) أي حاجة من خصاص البيت وهو ما يبقى بين عيدانه من الفرج والفتوح ، والجملة في موضع الحال ، وقد تقدم وجه ذلك مرارا (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) الشح اللؤم وهو أن تكون النفس كزة حريصة على المنع كما قال :
يمارس نفسا بين جنبيه كزة |
|
إذا همّ بالمعروف قالت له مهلا |
وأضيف إلى النفس لأنه غريزة فيها ، وأما البخل فهو المنع نفسه ، وقال الراغب : الشح بخل مع حرص ؛ وذلك فيما كان عادة ، وأخرج ابن المنذر عن الحسن أنه قال : البخل أن يبخل الإنسان بما في يده ، والشح أن يشح على ما في أيدي الناس ، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي شيبة وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب والحاكم